ثورة على الانقلاب.. وانقلاب على الثورة

عرف عن عرب البادية تقديسهم الحرية ورفضهم كل استعباد وطغيان، وتقديم أنفسهم وأرواحهم رخيصة في سبيل الحرية، يتساوى في ذلك الفقير مع الأمير، لقد كان أجدادنا كبارا لأنهم ولدوا في بيئة حرة، حيث تنمو شخصية الفرد صاحب المسؤولية، وتتكون الرجولة كما الأنوثة الحقّة، على عكس بيئة القمع والخوف حيث تتقزم شخصية الفرد فلا تنتج سوى أشباه الرجال وأشباه النساء أو أفراد مهزومين من الداخل مضطربي الشخصية.

فأين نحن من مقولة الخليفة الراشدي والصحابي عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"؟

فما من شعب محتل من قوى خارجية أو هو محتل من قوى داخلية يتوقف عن الحلم بالحرية أو تنتفي عنده رغبة نيل الحرية والحلم بالتحرر، حتى لو لم يعلن هو ذلك، خوفاً من عواقب التصريح ..

تطلّع السوريون إلى سماء الحرية وحلموا أن يعيشوا بكرامة أسوة بمن سبقهم من شعوب عربية وشعوب آسيوية وشرق أوروبية، فرّت من واقع الاستبداد الثقيل الذي جثم على أنفاس البشر عقوداً، انتهك كرامتها وأفقرها ماديا ومعنويا، وأمرضها نفسيا.. فكان نوعا من الموت المعنوي، كموت قبل الموت.. وحين تساوت الحياة مع الموت عند السوري قرر الثورة، لكن إعلانها تأخر سنوات، إلى حين انطلقت ثورات الشعوب العربية واحدة إثر الأخرى..

وحين جاء موعد الثورة حاول النظام -الذي جاء من انقلاب الثامن من آذار، ذلك الانقلاب الذي أطلق عليه "ثورة'- أن يدمر الثورة وشعبها الحر، فيقتل ثوارها وثائراتها شباناً وشابات رجالا ونساء وأطفالاً.. وبعد عامين أو ثلاثة أعوام نجح النظام بدعم إيراني مباشر وقوي في قتل معظم قادة الثورة أو اعتقالهم أو دفعهم إلى الهجرة، كما نجح في جرّ الشباب السلميين إلى حمل السلاح تحت ضغط القتل والدمار والمجازر ..

بدا للجميع أن النظام البعثي المخابراتي المولود من نظام عقائدي يؤمن بالبعث ويطالب بالحرية والاشتراكية، يخشى ثلاثية البعث مثلما يخشى الموت، فهو يرعبه بالخصوص سماع كلمة حرية، فكيف لو أن السوريين طالبوه بتطبيق الاشتراكية وتوزيع الثروة بالعدل على الشعب؟

كيف يمكن لنظام عسكري انقلابي مخابراتي أن يتقبل ثورة شعبية تطالب بإسقاطه وإسقاط الانقلاب؟

فالنظام الذي صدع رؤوسنا بشعار البعث المقدس (الوحدة والحرية الاشتراكية) راح يقتل شعبه ويدمر بلاده، فقط لأنه طالب بالحرية والكرامة..

فالنظام الحاكم الذي واجه الثورة الشعبية السورية بأسلوب دموي مريع، هو نفسه نظام الانقلاب العسكري المستمر منذ تشرين الثاني 1970، فكيف يمكن لنظام عسكري انقلابي مخابراتي أن يتقبل ثورة شعبية تطالب بإسقاطه وإسقاط الانقلاب؟ ثورة اعتبرها النظام انقلاباً على الانقلاب، وهي كذلك بالفعل والمآل، إنما هو انقلاب شعب كامل أو ملايين من الشعب على انقلاب يمثله ثلّة من العسكريين والأمنيين مع حاشيتهم المكونة من رجال أعمال وتجار كبار ورجال دين وفنانين ومثقفين..

وعلى الرغم من أن الثورة الشعبية السورية انتهت عمليا أواسط سنة 2013 بمعنى أن الكلمة الأولى لم تعد للتظاهرات الشعبية أو للاعتصامات وغيرهما من وسائل الاحتجاج السلمية، وإنما صارت الكلمة الأولى للسلاح المؤدلج للأسف، مع ظهور جبهة النصرة المدعومة بالمال والسلاح والأعلام والخطاب والسقف السياسي المذهبي، في سياق الاستراتيجية السعودية لمواجهة إيران في سوريا، وسياق الاستراتيجية الأميركية لاستنزاف إيران في سوريا، وفي سياق عام عربي حكومي وإقليمي لضرب الثورة الشعبية السورية والاستثمار السياسي الإقليمي في الساحة السورية التي باتت ساحة لصراع الأجندات والمصالح وتصفية الحسابات، وللمساومات ..

انتهت فاعلية المحتوى والمكون السلمي للثورة السلمية أواسط ذلك العام، لتبدأ عملياً بشعارات طائفية إيرانية وثورية سورية بقيادة جبهة النصرة وفصائل تابعة اسمياً للجيش الحر، إنما ذات محرك عقائدي مذهبي، ليجري تهميش مركّز للجيش الحر بعقيدته الثورية السورية، وبدا واضحاً يوماً بعد اليوم الفارق الجوهري بين الطرفين، فالجبهة مع حلفائها إضافة إلى الفصائل التي تعرف نفسها اسميا على أنها "جيش حر"، كانت تعلن بوضوح أنها تقاتل لإقامة دولة إسلامية، بينما بقيت الفصائل الثورية المنضوية تحت الجيش الحر تنادي بإسقاط النظام الديكتاتوري وإقامة دولة مدنية وتطالب بالحرية والكرامة لكل السوريين ..

بعد عامين من ذلك التاريخ في النصف الثاني من سنة 2015 انتهى الجيش الحر عمليا واسميا، بتكالب القوى المضادة، وبخيانة أميركية عربية واضحة عبر ما عرف بغرفة الموك، التي منعت تسليح الجيش الحر جنوب سوريا، بل وتجويع مقاتليه في سائر المناطق، وهندست القضاء على فصائله المتبقية في الشمال، فسمحت للفصائل الإسلاموية بإبادة فصائل الجيش الحر هناك، حيث طلبت الموك من الفصائل المتوجهة لإنقاذ الجيش الحر بعدم التدخل..

أوكسجين الحرية:

لنعتبر أن الثورة انتهت كما يقول البعض في الموالاة والمعارضة، أو على الأقل أن الدفق الأول للثورة قد انتهى... فلماذا يصر الشعب السوري حتى اللحظة على إسقاط نظام الأسد؟

الحرية أكسجين الشعوب، فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش دون أوكسجين سوى دقائق معدودة، كذلك الأمر، فالشعوب لا تستطيع العيش دون حرية إلى وقت غير معلوم

والحقيقة أن تتوقف ثورة أو تفشل أو تنكسر هو شيء، وأن يتوقف شعب عن المطالبة بالحرية، هو شيء آخر.. فطلب الحرية أمر فطري عند الإنسان -والإنسان السوري بالأخص- لا يعرفه المرضى الخاضعون بملء إرادتهم للسيد أو للحاكم - ومن هؤلاء بشار وعبيده، الخاضع للسيد الإيراني الروسي - فهؤلاء عبدة الاستبداد يستمرؤونه، ويتنفسون به..

نعم الحرية أوكسجين الشعوب، فكما أن الإنسان لا يستطيع العيش دون أوكسجين سوى دقائق معدودة، كذلك الأمر، فالشعوب لا تستطيع العيش دون حرية إلى وقت غير معلوم، حتى لو بدا الأمر عكس ذلك، بالنظر إلى شعوب بقيت تحت الديكتاتورية عقوداً أو تحت الاحتلال قرونا...

في الشرق العربي يبدو أن الحرية والموت توءمان سياميان، وفي سوريا تحديدا، على نحو أشد وضوحا وقسوة، على ما أظهرته وقائع الثورة ومن بعدها الحرب الأخيرة هناك، لم ينل السوريون الأحرار الشهداء الحرية في حياتهم الأرضية، فغادروها إلى حياة سماوية، لكأنهم أدركوا أنه لابد لهم من عبور طريق الموت الشجاع للوصول إلى الحرية الأبدية..