تشاؤم العقل عند أبي العلاء المعري وبذور "التديّن العقلاني"

لم يكن المتنبي وحده مالئ الدنيا وشاغل الناس. كان أبو العلاء المعري على الجانب الآخر لا يقلّ حضوره وانتشاره عن ذلك. لقد حاز على انشغال كبار الأدباء والمفكرين والباحثين على أي صعيد كان، أخلاقيا أم اجتماعيا أم فنيا وجماليا.

وربما يصحّ القول نقديا إن للشعر العربي القديم جناحين أساسيين، هما المتنبي والمعري. على اختلاف طبيعة التجربة الشعرية لكل منهما، فلكل منهما طرائق في الكتابة والتشكيل الشعري والرؤية الفكرية، مع ملاحظة أن المعري وسّع مجالات الكتابة ليتجاوز فنّ الشعر إلى فنون عديدة من النثر والرحلات والرسائل وشروح دواوين الشعراء... إلخ. أي أنه انخرط في تأسيس ما نسميه مشروعا شعريا ثقافيا متكاملاً، في حين اكتفى المتنبي بالشعر، ومما هو طريف وجدير بالتأمل أن المعري خصص مؤلّفا ضخما لشرح ديوان المتنبي! 

يعطينا أبو العلاء المعري نموذجا ثقافيا متعدد الدلالات، نظرا لكثرة المشاغل الأدبية والفكرية واللغوية التي قام بها. فكأنه كان يعي أن مشروعه تضيق به مساحة واحدة، فراح يبتكر المساحات شعرا ونثرا ورسائل وفكرا وشروحا للشعر. وإذا كان المعري ليس فيلسوفاً بالمعنى المنهجي للكلمة، فإن كل ما تشتغل فيه الفلسفة ـالقديمة والمعاصرةـ كان من صلب اهتماماته. وإذا لم يعبر في منظومة تراتبية عن فلسفة ما، فإن حياته وتنظيره للحياة، وتطابق التنظير مع السلوك، كان يعني أنه يقدم رؤية متماسكة لوجهات نظره. أما إذا جعلنا تجربته ومشروعه موضع درس أكاديميّ صرف، فسوف نعثر على مفهومات تناولها أو جعل منها أسس تفكيره ورؤيته للأخلاق. وأول هذه المفهومات الشكّ، والقلق، والحيرة. وما ينتج عن هذه الأمور حين تدور حولها الشخصية البشرية، من عزلة ووحدة وألم نفسي وعقليّ. المعري كان مثقفا اعتراضيا مشككا في كل اليقينيات الموروثة والمهيمنة. ولم يوفر من الشكّ والنقد حتى البديهيات الموروثة، بما فيها البديهيات الكبرى. وهو يدرك أن من يقوم بهذا فسوف يعيش غربة فوق غربة. لأنه سيكون مطرودا من السياق الرسمي للثقافة والدين والأخلاق. وهذا ما يعطينا مفتاحا لفهم كلّ حملات العداء والتشويه التي نالت شخصيته ومشروعه.

سوف نجد في شخصية وتجربة المعري بذورا أساسية وواضحة لفلسفة التشاؤم التي سادت في أوروبا في عصور حديثة. ولم يكن تشاؤمه مزاجاً عرضياً بل كان محرّكاً بنيوياً لشخصيته وشعره وفكره. ونستطيع بجدارة أن نطلق على حالته تعبير (تشاؤم العقل)! وهو مصطلح فلسفي معاصر. وهو مصطلح يفيد في أهمية تشاؤم العقل، فالعقل حين يتشاءم يستنفر نفسه بنفسه من أجل خلق أسباب الإرادة والوعي للتغيير. هو إذا ليس تشاؤما سلبيا هداما، لذلك نرى المعري لم يستسلم للتشاؤم وبقي يحارب كل أنواع الجهل والظلم والفساد.

لا يمكن قراءة تشاؤم المعري من منطلق شخصيّ يتعلق به وبالإعاقة الجسدية التي ابتلي بها

لا يمكن قراءة تشاؤم المعري من منطلق شخصيّ يتعلق به وبالإعاقة الجسدية التي ابتلي بها، وإذا كانت هذه الإعاقة محرضا لديه، فهي جزء من مجموعة عوامل كبرى جعلت من رؤيته الفكرية مأخوذة بإشاعة التشاؤم، الذي ما كان عنده دعوة لليأس وتمويت طاقات الإنسان، بل دافع تثويري على العمل وتغيير شروط الكائن والعمل على الوصول إلى حالة يحقق فيها كرامته ووجوده الفاعل. ولو كان تشاؤم المعري محبطا وقاتلا لما كنا شهدنا له هذا التنوع في الكتابات وهذا الكمّ الكبير من المصنفات والكتب التي تركها إرثا للبشرية.

كما تتضمن أفكاره وجهات نظر فريدة من نوعها فيما يخص عدم إنجاب الأولاد، وبالأساس كان ضد فكرة الزواج. نرى هنا موقفا فلسفيا من مؤسسة اجتماعية رأى أنها تسبب الآلام والمشكلات للنسل الذي تخلفه. هذه المؤسسة هي الزواج. وهو يفتخر في مقولة مشهورة له بأنه مولود كضحية جنى عليها أبوه، بينما هو لم يجنِ على أحدٍ. وكل ذلك يندرج في إطار عموميّ يتعلق برفضه لأي مصدر من مصادر الفساد والخلل التي يمكن أن تسيء إلى كينونة الإنسان. وفي النهاية هو يحاكم الإنسان على ما يرتكبه بحق نفسه وبحق الوجود. لقد رأى أن هذا الوجود فاسد لأسباب كثيرة منها سيادة العلاقات الاجتماعية المبنيّة على المنفعة والانتهاز وليس على أساس عميق بنّاء. ومن أسباب هذا الفساد تكريس سلطة شمولية تتخفّى بأيديولوجيا ذات طابع لا تاريخيّ تحوّل الدين إلى مسوّغ للاستبداد سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

وكان يدعو إلى ما نسميه الآن بـ (التدين العقلاني). كحلّ منطقي ومقبول لمعضلات المجتمع حين تكون له حاجات للتدين. ومن هنا كان يجعل من العقل إماماً، مما يدل على رغبة في فكره بأن نحتكم لإرادة العقل في معالجة وتقييم الأزمات التي تهدد وجود الكائن أو تنذر بخطر الانهيار. فالعقل هو مرجعُ الإنسان في الفهم والتحليل والحكم. وليس هناك من تناقض فجّ بين سلطة العقل وبين حاجات البشر الطبيعية للتديّن. هذه المقولة كافية لتجعل المعري واحدا من كبار الأحرار في تاريخ الثقافة السورية أساساً.   

لقد كانت شخصيته خلاصة للفكر السوري الموغل في السؤال والبحث والتجديد والتهكم منذ عصور قديمة. فهو ينتمي للذهنية السورية الحضارية التي تجاوزت الجغرافيا.

وهذا ما يشجعنا على استدعاء المدونة الشعرية والفكرية التي تركها المعري، في دعم تحليلنا للمشكلات السياسية والثقافية والدينية التي تجثم على صدور السوريين الباحثين عن منقذ من ضلالهم السياسي والنفسي. إذ بأفكار المعري يمكننا الركون بأمان إلى سلطة القانون التي هي روح العقل، والتي لا مهرب منها لتحقيق عدالة ممكنة في مجتمعنا وعالمنا. فهذه العدالة لا يمكن أن تتحقق في ظل نظام سياسي مدعوم بنظام ذكوريّ بطريركيّ متعنّت. العقل والحرية هما ما يمكننا بهما أن نلخص التجربة السورية للمعري، لنجعل منه ليس مجرد شاعر عابر، بل هو بجدارة شاعر مفكر يتعايش مع احتياجاتنا الراهنة والدائمة.