يعد الفيلسوف وعالم الاجتماع الروسي ألكسندر دوغين من المفكرين الذين يحظون بمتابعة وحضور عالي المستوى في روسيا الاتحادية وبعض بلدان المشرق، وحتى في أوساط عدد من الجامعات الأوروبية. أسباب شهرته كثيرة منها القول إن أفكاره لها تأثير كبير على فلاديمير بوتين، ومنها قوله بما يسمى النظرية السياسية الرابعة، ومنها أراؤه السياسية المتطرفة، كقوله "لا عالم بلا روسيا"، وإن "الله ضد الإنترنت"، وأن ترامب صديق لروسيا، وأن روسيا ذهبت إلى سوريا لمحاربة أميركا هناك. أما آخر أسباب شهرته فيبدو أنه سيكون مقتل ابنته قبل يومين في تفجير سيارة قيل إنه هو المستهدف منه. فما هي قصة هذا الرجل؟ وهل هو من أشار على بوتين بالتوجه إلى سوريا، وشن الحرب على أوكرانيا، لا سيما أن المحللين يبينون أن بوتين أستخدم مصطلحات لدوغين في خطاباته التي ألقاها قبيل تلك التدخلات؟
يلقب دوغين بأنه "راسبوتين بوتين" (للتذكير بالتأثير الذي مارسه راسبوتين على قياصرة روسيا)، كما يلقب بـ "رأس بوتين". أما دوغين فيبين أن علاقة التأثير هذه لا تعدو، في حقيقتها، أن كلا الرجلين يتبنى نفس الأفكار والنزعات القومية الأوراسية، مثلما يتبنى نفس الرؤى حول الأزمة التي تعانيها الليبرالية العالمية اليوم. أما أهم نظريتين يقول بهما دوغين فهي النظرية السياسية الرابعة ونظرية أن الحضارات الأوراسية مختلفة عن الحضارات الأطلسية الأوروبية، أي إن روسيا هي بنت آسيا وليست بنت أوروبا.
طرح دوغين النظرية السياسية الرابعة. وهي خليط من أفكار فلسفية ودينية وقومية تقول بضرورة تحرير الفرد من تغول التكنولوجيا والعودة به إلى حياته الوجودية الحقيقية
تقول النظرية السياسية الرابعة إن العالم عاش في القرن العشرين ثلاث أيديولوجيات سياسية هي الليبرالية، والشيوعية، والفاشية أو النزعة القومية بما فيها النازية. في نهاية الحرب العالمية الثانية انتصرت الليبرالية على الفاشية والنازية، وفي نهاية الحرب الباردة انتصرت الليبرالية على الشيوعية. ولكن كل من الأيديولوجيات الثلاث لم تجلب الأمن والاستقرار للعالم. أما مشكلة الليبرالية فهي أنها تركز على الحريات الفردية المفرطة، كما أنها تركز على اقتصاد السوق والتكنولوجيا للسيطرة على البشر، ولذلك يطرح دوغين النظرية السياسية الرابعة. وهي خليط من أفكار فلسفية ودينية وقومية تقول بضرورة تحرير الفرد من تغول التكنولوجيا والعودة به إلى حياته الوجودية الحقيقية، كما تركز على المجتمع قبل الفرد لأن المحيط المجتمعي هو الذي يجلب الاستقرار وليس الفرد.
أما نظريته حول الحضارات الأوراسية (أي الأوروبية الأسيوية)، والتي طرحها في عدة كتب أهمها كتاب "الخلاص من الغرب" ومدى اختلافها عن الحضارات البحرية الأطلسية فتقول إن هناك مجموعتين حضاريتين في العالم: الأولى هي الحضارات الأرضية (الروسية، الهندية، الإيرانية، التركية، الصينية) أي الحضارات في آسيا والجزء الأوروبي القريب من آسيا. أما المجموعة الثانية فهي الحضارات الأطلسية والأوروبية ويعني بها أوروبا وأميركا. والمشكلة عند دوغين أن الحضارة الأوروبية الليبرالية تريد أن تفرض قيمها على كامل العالم وتسيطر عليه، في حين إن هذه القيم لا تناسب الحضارات الأرضية. ولذلك يدعو لما يسميه "عالم متعدد الأقطاب" بحيث كل حضارة تعيش وفق قيمها الخاصة، وكفى الله المؤمنين شر القتال. أما الأوراسية الروسية فتعني بالنسبة له أن تسيطر روسيا، مرة ثانية، على معظم بلدان الاتحاد السوفييتي السابق، إما بشكل مباشر عن طريق الاحتلال وتعيين حكام محليين موالين لها، أو بشكل غير مباشر عن طريق اتفاقات هي في جوهرها جعل تلك الدول تحت العين الروسية.
طبعا لا يخفى على المتأمل في كلام دوغين أنه ينظّر لبقاء الأنظمة الدكتاتورية في العالم بحجة أن الليبرالية الديمقراطية لا تناسب بقية حضارات العالم، مستغلا الأزمات الاقتصادية التي تظهر من حين لآخر في العالم الليبرالي الديمقراطي، وكذلك النزعة الإمبريالية التي تدفعه إلى السيطرة على العالم، إما عن طريق الحروب أو عن طريق الاقتصاد. دون أن يصارحنا بأن الحروب هي اللعبة المفضلة لدى الطغاة – أيضا- من أجل إلهاء شعوبها عن حقوقها وبناء أمجاد شخصية، لا سيما أن الحروب تشعل المشاعر القومية المتطرفة وتوفر أداة فعالة بيد الطغاة لإسكات المعارضات وقمعها.
دوغين متحمس للحروب، وهو من أكبر المشجعين لبوتين في حربه ضد أوكرانيا وتدخله الوحشي في سوريا. تطرف دوغين وصل إلى حد قال فيه إن العالم أمام خيارين: إما أن تتنصر روسيا وإما أن يتوقع العالم حربا نووية. كما دعا إلى عدم العمل بالإنترنت في العالم (وهي دعوات هستيرية شبيهة بدعوات ضباط المخابرات السورية الذي دعوا لقطع الإنترنت عن سوريا عام 2011 للسيطرة على الاحتجاجات). كما دعا إلى إعادة هيكلة الاقتصاد الروسي على طريقة ستالين والسور الحديدي الذي يقلل الاستيراد والتصدير من الغرب إلى أقصى درجة ممكنة.
قبل يومين قتلت داريا ابنة دوغين (30 عاما) عندما تم تفجير سيارتها في موسكو، وبحسب غالبية المحللين فإن دوغين هو نفسه كان المستهدف. كما تحدثت الأخبار عن حصول انهيار عصبي لوالدها أدخله المشفى بسبب خبر وفاة ابنته. طبعا الموالين لبوتين بدؤوا بالتنديد ووصف العمل بالإرهابي، لا سيما أن دوغين موضوع على قائمة العقوبات الأميركية ويعمل كمستشار كبير في الحكومة الروسية. حتى ما يسمى بـ "الجبهة الديمقراطية العلمانية (جدع) السورية (مقرها دمشق) كانت مهتمة بالخبر ووجه أنصارها التهم للغرب بتنفيذ التفجير".
الجريمة حصلت قبل يومين وما زالت الأخبار عمن نفذ العملية شحيحة، ولكن في دولة مثل روسيا لا نسمع إلا بالحقائق التي يريد بوتين أن نسمعها فقط
يقول التاريخ إن قتل أي مفكر في البلدان الدكتاتورية، بل قتل أي مواطن، والتضحية بهم تعد من أسهل الأعمال السياسية على الإطلاق، ولا فرق في النهاية بين معارض وموال، إذا كانت هناك مصلحة للطاغية. وحسبنا هنا أن نذكّر بعدد الموالين للنظام السوري الذين قتلوا في دمشق ودير الزور والسويداء ومدن كثيرة. الجريمة حصلت قبل يومين وما زالت الأخبار عمن نفذ العملية شحيحة، ولكن في دولة مثل روسيا لا نسمع إلا بالحقائق التي يريد بوتين أن نسمعها فقط. في مصر كان حسني مبارك هو من يسهل عمليات تفجير الكنائس لتوتير الأوضاع السياسية وجعل مسيحيي مصر يخافون على أنفسهم مما يضطرهم لتقديم الولاء له، (وهي استراتيجية يبدو أن السيسي يسير على خطاها). وفي سوريا لم تكن عملية قتل محمد سعيد رمضان البوطي ورستم غزالة وآصف شوكت وهشام بختيار وحسن تركماني وداوود راجحة وجامع جامع وغيرهم لتتم بدون علم أو تسهيل أو تنفيذ من قبل المخابرات السورية. والحسابات هي دائما مدى استفادة الطاغية من أعمال كهذه.
جرائم القتل في بلدان مثل روسيا وسوريا وأشباهها من البلدان قد تحصل لأتفه الأسباب. فقد يريد الطاغية من وراء الجريمة تشتيت الرأي العام وإلهاءه بخبر صادم (أكشن)، أو من أجل تخويف أطراف أخرى، أو لتوجيه رسائل، أو للتغطية على خسارة تلوح في الأفق. ولكن من الثابت أن دوغين لم يكن يحسب حساب أن لا كرامة لمفكر في بلدان مثل روسيا أو سوريا. وأنه سيكون ممن يدفعون ثمن تلاعبهم بالتاريخ والسياسة.