رغم أنه كان فيلما قصيرا لم يشبع نهم محبي أفلام الإثارة والتشويق؛ إلا أن أحداثه حملت الكثير من المعاني والإيحاءات. لم يكن التمرد العسكري الذي قاده مالك شركة "فاغنر" "يفغيني بريغوجين" حدثا عابرا لا يحتاج التوقف عنده، إنما هو علامة فارقة وحدث بارز زلزل روسيا ودمر ما تبقى من هيبة ومعنويات وثقة بالنفس لدى الروس ولدى القيادة الروسية.
نظريا؛ جرب "بريغوجين" أن يقود انقلابا يطيح بالنظام الروسي معتمدا على الشعبية التي حظيت بها قواته نتيجة تقدمها في "باخموت" في مقابل فشل الجيش الروسي في عدة مواقع. ورغم أنه لم يصرح بذلك علنا، إلا أن إعلانه التوجه بقواته نحو العاصمة لمحاسبة وزير الدفاع ورئيس الأركان، ودعوته المواطنين للنزول إلى الشارع ضاربا عرض الحائط بوجود رئيس وحكومة ليس له معنى آخر. إلا أن "بريغوجين" قبل وساطة الرئيس البيلاروسي وقرر التراجع عن مشروعه عندما لمس ضعفا في التجاوب مع دعواته، وهكذا انتهى كل شيء خلال ساعات معدودة.
بالأمس قبيل عملية التمرد بأيام قليلة عقب وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" على مقولة الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم بقوله: إنه ثاني أقوى جيش في أوكرانيا
أما من الناحية العملية؛ فإن ما حدث قد أسقط آخر ما تبقى من معالم الصورة الذهنية التي عملت روسيا من خلال دعايتها القوية والناجحة على طبعها في عقول الآخرين حول القوة العسكرية الروسية، وقوة زعيمها "فلاديمير بوتن"، أو الرجل الحديدي كما يلقبونه، فبعد الأداء العسكري المترهل خلال الحرب في أوكرانيا أظهر الجيش الروسي هشاشة قل نظيرها عندما اجتاح مقاتلو "فاغنر" الأراضي الروسية، إذ شاهد العالم بشرقه وغربه كيف أن قوات فاغنر استولت عل مقاطعة "روستوف" وسيطرت على كافة النقاط العسكرية فيها دونما أية مقاومة، كما شاهد العالم كيف قبل "بوتن" إسقاط التهم عن رجل متهم بالخيانة والصفح عنه مقابل إيقاف التمرد.
بالأمس قبيل عملية التمرد بأيام قليلة عقب وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" على مقولة الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم بقوله: إنه ثاني أقوى جيش في أوكرانيا. ترى لو سئل "بلينكن" اليوم نفس السؤال ماذا سوف يجيب؟! لقد سقطت مقولة إن الجيش الروسي ثاني أقوى جيش في العالم سقوطا مدويا، واستحالت صورة الرجل الحديدي إلى نمر من ورق. فرغم أنها ساعات معدودة، إلا أنها كانت كافية لتهشيم صورة الرجل الحديدي ووضعته أمام خيارين أحلاهما مر.
لعل الخيار الأول ينحصر في البحث عن طريقة للملمة أوراقه المبعثرة، وتجنيب نفسه وبلده المزيد من التدهور الذي دخل منعطفا خطيرا بعد "زلزال بريغوجين". ويمكن مقاربة هذا الخيار عن طريق البحث عن حلول وسط للحرب الأوكرانية أولا، ولباقي القضايا الخلافية ثانيا. ورغم أن الانكفاء والتقوقع عن طريق اجتراح الحلول غير المذلة خيار قد يصطدم برفض الخصوم لما لمسوه من ضعف "بوتن" شخصيا، وضعف روسيا بالعموم إلا أنه يبقى خيارا لديه حظوظ لا بأس بها من النجاح.
إن التخوف الأميركي من السقوط المدوي لروسيا (لما له من تبعات وتداعيات اقتصادية وسياسية وأمنية) قد يدفع الإدارة الأميركية لدعم وتبني هذا النوع من المقاربات، أي البحث عن حلول وسط، إلا أن الأنظمة الدكتاتورية بسبب طبيعتها وبنيتها يصعب عليها أن تتبنى هذا النوع من البرغماتية السياسية؛ لأن تداعياته قد تكون أشد خطورة من الخيار الثاني حسب عقلية الدكتاتور.
بعد أن تم تحييد مجموعة "فاغنر" – ولو مؤقتا – سوف تنكشف سوءة الجيش الروسي أكثر وأكثر، فمقاتلو هذه المجموعة كانوا بمثابة القوة الضاربة التي اعتمد عليها "بوتن" للتغطية على ضعف الجيش الروسي وهشاشته
أما الخيار الثاني، وهو الأقرب إلى عقلية الأنظمة الدكتاتورية، فهو أن يمتثل "بوتين" لمقولة "خير وسيلة للدفاع هي الهجوم" ويستنفر كافة موارد القوة الروسية لاستعادة الهيبة والظهور بمظهر من يستطيع الانتصار، وذلك عن طريق اللجوء للبطش داخليا وخارجيا. وهذا خيار محفوف بالمخاطر؛ لأن الحرب الأوكرانية أثبتت أن الجيش الروسي يفتقر إلى الكفاءة اللازمة، وأن المؤسسة العسكرية يعشعش الفساد في جنباتها.
بعد أن تم تحييد مجموعة "فاغنر" – ولو مؤقتا – سوف تنكشف سوءة الجيش الروسي أكثر وأكثر، فمقاتلو هذه المجموعة كانوا بمثابة القوة الضاربة التي اعتمد عليها "بوتن" للتغطية على ضعف الجيش الروسي وهشاشته. لذلك، قد يبدو خيار استنفار القوة الروسية اعتمادا على الجيش والاستغناء عن خدمات مجموعة "فاغنر" أشبه بسلوك التاجر المفلس الذي يحاول إخفاء إفلاسه فيغرق أكثر.
يحدثنا التاريخ القريب عن حرب وقعت عام 1939 بين الاتحاد السوفييتي بعظمته ودولة صغيرة اسمها "فنلندا"، اعتاد المؤرخون أن يسموا تلك الحرب "حرب الشتاء"، والتي انتهت بعد توقيع معاهدة موسكو للسلام تنازلت فنلندا بموجبها عن 9% من أراضيها إلى الاتحاد السوفييتي. لكن خسائر الجيش السوفييتي البشرية وصلت في تلك الحرب إلى ما يتراوح بين 70 إلى 170 ألف جندي حسب التقديرات المختلفة، وهو ما يعني أن الجيش السوفييتي زُجّ في مذبحة من أجل الحصول على النصر، لكنه نصر بطعم الهزيمة، فقد كانت الخسائر السوفييتية فادحة. وقد كان من تداعيات تلك الحرب أن تضررت سمعة البلاد الدولية، وطردت من عصبة الأمم، وتشجعت ألمانيا على غزو الاتحاد السوفييتي بعد أن اكتشفت ضعف جيشه.
ها هو التاريخ يعيد نفسه، فخسائر روسيا في حربها على أوكرانيا فاقت توقعات أشد المتشائمين الروس، وها هي روسيا تفقد هيبتها وسمعتها، وها هو "بريغوجين" يفتح الباب لمن يرغب بالتمرد أو التحدي. وروسيا التي زلزلت بتمرد "فاغنر" نحو مزيد من التهور أو مزيد من الانكسار.