تعددت في السنوات الأخيرة مشاريع إنتاج وثائق تأسيسية تطرحها تيارات وجماعات عديدة من النخبة السياسية السورية المعارضة.
ما يظهر في هذه الوثائق طوباوية في الطرح وانفصال عن الواقع، الأمر الذي يظهر بدوره أن من يصيغون هذه الوثائق منفصلون عن الواقع، وغير مبالين أو هم لا يملكون القدرة على إنتاج وثائق تلبي طموحات السوريين، والأخطر من ذلك أنهم يفتقدون القدرة على التخيل وهو أقل ما يجب توافره فيمن يسعى لبناء نموذج لسوريا الجديدة وبمن يعمل على بناء مخططات المستقبل التي يفترض بها تجاوز أفخاخ الماضي وقصور الحاضر.
من يريد إنتاج نموذج لمستقبل سوريا أو بناء نظام حكم سوري واقعي ومثمر يجب أولا أن يرمي كل نموذج قابع في ذهنه، لا بد للذهن أن يتحول إلى مرآة نظيفة ينعكس فيها الواقع بدقة
إلى ذلك تبدو بعض هذه الجماعات التي تضع خرائط المستقبل في شتى المناحي الاقتصادية والسياسية والثقافية نخب متوترة مشرذمة تابعة معرفياً وذهنياً، وبالتالي هي تابعة في وعيها وتصوراتها وطريقة تفكيرها لمراكز إنتاج الوعي والقوالب الذهنية في الغرب، لذلك فهي نخب غير أصيلة، ضيقة الأفق، فخرائطها وأطروحاتها السياسية لا يمكن أن تنتج إلا ما يفكر به المركز الأميركي أو الأوروبي، ما يعني أن هذه النخب السورية ستنتج خريطة لسوريا المستقبل قائمة على التوتر والشرذمة، وستنتج عين ما كان سينتجه بريمر وجورج سايكس وبرنار لويس.. كما لو أن هؤلاء الأخيرين مازالوا يعيشون بيننا وقد اجتمعوا في غرفة مظلمة لطبخ مستقبل سوريا.
من يريد إنتاج نموذج لمستقبل سوريا أو بناء نظام حكم سوري واقعي ومثمر يجب أولا أن يرمي كل نموذج قابع في ذهنه، لا بد للذهن أن يتحول إلى مرآة نظيفة ينعكس فيها الواقع بدقة، عندها سيتمكن الذهن من دراسة الواقع، ويكتشف المشترك الذي يريده السوريون، (الاستقرار، الحرية، التنمية.. مثلا) ثم يبحث عن الممكنات وعن أسهل الطرق للتنفيذ، ومن بعد ذلك يأتي تركيب وبناء نموذج سوريا المستقبل، وهو غالباً سيكون نموذجا سوريا خاصا بسوريا وعلى الأغلب لن يشبه أي نموذج معروف.
بالضرورة فإن صانعي النموذج السوري هم تكنوقراط نزيه، أي إنهم مجموعة متخصصة في علوم الاجتماع والسياسة والتخطيط والإدارة.. وفي الوقت نفسه يجب أن يكون هؤلاء نزيهي اليد، وغير تابعين أو خاضعين لأي جهة سياسية.. ومشهود لهم بإخلاصهم للشعب السوري.
لكن ما يحدث في السنوات الأخيرة هو التالي: عدد من المعارضين السوريين الطامحين لديهم نموذج جاهز يريدون تطبيقه في سوريا وللأسف فإن النموذج الوحيد الذي يطرحه علينا هؤلاء هو النموذج العراقي الذي أنتجه للعراق الأميركي بريمر، النموذج السياسي الذي أعاد تدمير العراق دون قنابل ودون حرب، منتجا مجتمعا ودولة فاشلين لأنه قام على اعتبار الجماعات العراقية مكونات أي جماعات قائمة بذاتها، فمنحها حقوقا دستورية وتمثيلا سياسيا وبالتالي أنشأ لكل منها كيانا اعتباريا تام الأركان بعيداً عن الدولة العراقية.
الأنكى مما سبق أن جهة ما غير سورية نافذة وفاعلة تملك المال يمكنها أن تضع برنامجا لمستقبل سوريا بوساطة عدد من أتباعها السوريين، وغاية هؤلاء السوريين إرضاء هذه الجهة التي يتلقون منها مساعدات أو رواتب شهرية، أو هي تعدهم بمناصب ضمن أي هيئة سياسية يتم تشكيلها مستقبلا.. فبعض النخبة السياسية المعارضة أثبتت مواهبها في التبعية وفي انعدام أي انتماء إلى الشعب السوري، وفي لامبالاة بمصير سوريا تصل درجة العدمية.
ففي موضوع النموذج المسبق أو القالب الجاهز الذي يريد بعض هؤلاء تطبيقه في سوريا، يتحدثون عن نموذج المكونات سابق الذكر، مثلا دون أن يدرس أيا منهم هذا القالب ودون أن يحاول البحث في الحالة التي ستنتج عن تطبيقه.. فهذا النموذج المبني على فكرة "المكونات" يعتبر المجتمع السوري "مجموعات بشرية لا تربطها بالدولة أطر وهياكل قانونية" بل لا تربطها ببعضها أي روابط إنسانية من تشارك وتعاون ومؤازرة، ولا تشترك في علاقات اجتماعية وشراكة وجودية (تصاهر ونصرة عند الخطر)، فالمكونات هي أشبه بالقبائل المتصارعة المتحاربة، تعيش حالة خوف وتوتر دائمين، ففي نموذج المكونات نحن أمام مجتمعات محلية لا تخضع للدولة ولا لقوانينها (النموذج اللبناني بعد الحرب الأهلية) كل منها يديرها زعيم محلي زعيم سياسي أو زعيم ديني أو حتى رجل أعمال نافذ.
لذلك ففكرة المكونات بما تعنيه حرفيا لو أخذ بها وطبقت على أرض الواقع، ربما تدفع بمجتمعنا السوري إلى القرون الوسطى، بل إلى العصر الآرامي حيث ساد نمط المدن الدويلات والقبائل الدويلات.. فهل هذه الصيغة هي ما يريده لنا نحن السوريين أولئك المثقفون المتنورون المنادون بالعلمانية والحداثة والذين يرددون ويتداولون نموذج المكونات و"الحقوق الدستورية للجماعات" كما لو أنها تعويذة سحرية لحل كل مشكلاتنا وأزماتنا؟
ولن يستغرب أحدنا إن علم أن أكثر هؤلاء لا يعرف المعنى الحقيقي لهذا المصطلح "مكونات"، الكلمة التي يرددها ويتلمظ بها كما كل مصطلح جديد لبعض السوريين كدليل على ثقافتهم السياسية.. في وقت هو مصطلح يشرّع تمزيق سوريا فعلياً.. وهو دأب بعض المشتغلين على إنتاج وتسويق وثائق سياسية وتأسيسية في أحزاب وجماعات سياسية سورية خلال الثورة وما بعد الحرب في سوريا.
القول بمكونات سورية يسقط بالضربة القاضية مقولة الشعب السوري الواحد التي لا يزال يرددها الشعب السوري المنتفض منذ ثلاثة عشر عاماً
إن هؤلاء المثقفين ليسوا كلهم سيئي النية، فمعظهم لا يعرف مدلول المصطلح كما أسلفنا. ومن ناحية أخرى لا يمكن لفكرة المكونات أن تلتقي مع فكرة الوطن وبالتالي يستحيل أن تلتقي مع مفهوم المواطنة، فالمكونات تؤسس لأوطان داخل الوطن، لأن فكرة المكون تنطلق من اعتبار أن جماعة ما هي حالة شبه قانونية قائمة بذاتها مكتفية بذاتها لا تحتاج لغيرها ولا علاقة فيما بينها وبين الدولة اللهم إلا علاقة التوتر والتنابذ والنفور، فالقول إن سوريا تقوم على مكونات يعني أن سوريا تقوم على شعوب، وهو ما أراد تمريره بوتين منذ مؤتمر سوتشي، وما قبله حين دعت وزارة خارجيته إلى مؤتمر للشعوب السورية وسارت في ركب هذه الدعوى مجموعات من المعارضة أكثرها حماسة نخبة تتبع فكرياً لتنظيم قسد.. فالقول بمكونات سورية يسقط بالضربة القاضية مقولة الشعب السوري الواحد التي لا يزال يرددها الشعب السوري المنتفض منذ ثلاثة عشر عاماً.
إن ما يجمع السوريين أكبر مما يفرقهم، فهم أبناء ثقافة اجتماعية واحدة تحوي قيماً وأعرافاً متشابهة أو قريبة من بعضها، ومزاجهم النفسي واحد تقريبا، وهم يشتركون في تفضيلات وأولويات متقاربة، سببها أنهم عاشوا في مكان واحد هو الجغرافيا السورية آلاف السنين، وتعرضوا لذات الظروف وواجهوا التحديات نفسها، وهم كذلك عرقياً وجينياً ينحدرون من سلالات مشتركة، هؤلاء السوريون كانوا بعد كل حرب يتسبب بها نظام حكم مستبد أو غزاة أغراب يعودون إلى حياتهم الطبيعية، القائمة على المشاركة والتبادل والتعاون والتصاهر.
واليوم فإن أسوأ ما يمكن أن يحدث لسوريا هو أن يضع لها حفنة من السياسيين التابعين أو المغامرين غير المتخصصين أو الناقمين نموذجاً مبنيا على توترات وكوارث الحرب، أو على ردود الأفعال، فيؤسسون بذلك لحروب باردة وساخنة مستدامة لا يريدها أحد من السوريين.