في خروج لافت عن المألوف في الدراسات السياسية المعاصرة، يبين عزمي بشارة في كتابه "الانتقال الديمقراطي وإشكالاته – دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة"، الصادر مؤخرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن الوقت قد حان لكي تكف النخب العربية المعارضة عن لوم الشارع العربي وتحميله أوزار الصعوبات التي تواجهها الثورات في بلدان الربيع العربي؛ فالتحليل الدقيق للموقف السياسي، بعد تلك الثورات، يبين أن النخب المعارضة هي من تتحمل المسؤولية الأكبر في التعقيدات التي نشهدها اليوم، وأن ثقافتها الديمقراطية أقل من الثقافة السياسية الديمقراطية للشارع العربي.
فأي تحليل لأداء تلك النخب سيخلص إلى أنها لم تكن مؤهلة لإدارة فترة المراحل الانتقالية، من حيث هي مراحل غاية في الدقة والحساسية، لا سيما أن تاريخ الثورات يجعل من نجاح أي ثورة من الثورات أمرا متوقفا، بشكل كبير، على مستوى طريقة إدارة النخب المعارضة للمرحلة الانتقالية.
فالثقافة السياسية، من حيث هي قيم الناس واتجاهاتهم وقناعاتهم حول قضايا الحكم والسلطة السياسية والتي تتعلق بـ: المشاركة السياسية، والثقة بالشركاء السياسيين، وتحييد العسكر عن السياسة، والقبول بالديمقراطية مهما كانت النتائج، تختلف من منطقة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر. أما المقصود بها في الفكر السياسي المعاصر فهو أنها تتشكل بحسب ثقافة الشعب المحلية وعقائده الدينية وتراثه، بحيث يكون لدينا ثقافات سياسية مساندة ومشجعة للديمقراطية، وثقافات سياسية تعيق التحول نحو الديمقراطية، وذلك بحسب ثقافة كل شعب. وفي هذا السياق ظهرت دراسات كثيرة، غربية وعربية، ترجع عدم تمكن العالم العربي من التحول إلى الديمقراطية إلى ثقافته السياسية التقليدية، والتي تعاني من وجود تعارض بين الإسلام والديمقراطية، أو إلى سيادة ثقافة الطاعة والتقليد التي لا يفكر العربي في أوضاعه ولا يؤسس قناعاته السياسية إلا من خلالها.
إن المشكلة هي في الثقافة السياسية للنخب المعارضة. فالشعب، في بلدان الربيع العربي، أنجز ما يمكنه فعله، وذلك حين خرج بثورات كلفته تضحيات هائلة
يقدم بشارة هنا تصحيحين مهمين للمغالطات الموجودة في نظريات الثقافة السياسية المتداولة في الفكر السياسي المعاصر. الأول أنه ليس للثقافة السياسية، عند شعب من الشعوب، دور كبير في التحول نحو الديمقراطية؛ لأن الثقافة الشعبية السياسية، كما يبين التاريخ السياسية للديمقراطية، كانت رافضة للديمقراطية في المناطق التي حدث فيها تحول ديمقراطي (أوروبا)، ولذلك لا علاقة بين الثقافة السياسية الشعبية ونظام الحكم.
والتصحيح الثاني أن الثقافة السياسية لشعب من الشعوب تتأثر بنظام الحكم القائم أكثر من تأثرها بالثقافة المحلية أو التقليدية أو الدينية، وهذا يعني أننا عندما ندرس الثقافة السياسية يجب أن ندرسها بوصفها – وهذا الأكثر أهمية - نتاجا لسياسات نظام الحكم أكثر من كونها مرتبطة ببنية المجتمع وثقافته المحلية. ومن ثم فإنه من غير المنطقي, ومن غير العادل, أن نتوقع وجود ثقافة سياسية ديمقراطية لدى شعب يرزح تحت حكم ديكتاتوري.
ولذلك ينبغي البحث عن المشكلة في مكان آخر. إن المشكلة هي في الثقافة السياسية للنخب المعارضة. فالشعب، في بلدان الربيع العربي، أنجز ما يمكنه فعله، وذلك حين خرج بثورات كلفته تضحيات هائلة، كما أنه أظهر صلابة فاجأت حتى طغاة المنطقة. غير أن أداء النخب المعارضة هو الذي لم يرتق إلى مستوى التضحيات التي قدمتها شعوب المنطقة.
ويركز بشارة على ثقافة النخب لأنها ثقافة مؤثرة أكثر بكثير من الثقافة الشعبية السائدة، ولا سيما في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تلي الثورات. فالنخب هي من سيضع الدستور، وهي من يقود المداولات حول شكل الحكم القادم، وهي من يتحدث في وسائل الإعلام، ويقدر المواقف، ويوجه الرأي العام، ويقوم بالمساومات السياسية. ويبين التحليل لأداء تلك النخب أنها لم تكن تؤمن بالديمقراطية؛ لأن غالبية القوى المعارضة كانت تريد السلطة لنفسها ولا تقبل بالشراكات الاستراتيجية، بل إن بعض النخب قبلت بحكم العسكر حتى لا يؤول الحكم إلى خصومها السياسيين، حتى لو كان حكم هؤلاء ديمقراطيا. كما أن الخلافات بين نخب المعارضة بينت أنها لا تثق بالآخر، مع العلم أن الأساس في الديمقراطية هو إدارة الخلافات بين الفرقاء عن طريق الاتفاق لا الإجماع، مثلما اتضح أن النخب تحتوي على عدد من الذين يديرون السياسة من منطلق مزاجيات تتعلق بالتحاسد والغيرة والاستعلاء والمصالح الشخصية.
أما العيب الذي أظهر ضعف النخب العربية المعارضة فكان قبولها الجري وراء الحشود الأكثر تشددا وتقديم التنازلات لهم بغية إرضائهم. في حين أنها لم تقدم تنازلات لخصومها السياسيين الذين يشاطرونها القبول بالديمقراطية كمبدأ للعمل السياسي في المرحلة الانتقالية. وهذا ما حصل وعلى نحو محزن في جميع بلدان الربيع العربي.
من العيوب أيضا أن بعض النخب المعارضة التي نجحت بالانتخابات تعاونت مع النخب الفاسدة التي كانت تحكم قبل الثورة. كما أن بعضها أنشأ كيانات عسكرية تبين، فيما بعد، أنها غير قادرة على ضبطها أو التحكم بها. وثمة أصناف أخرى، فمنها من مارس السياسة من موقع الوجاهة والمكانة الاجتماعية، وآخر تبوأ الصدارة في المعارضة ولكن لم يكن له هم إلا أن يعارض المعارضة، مثلما وجدت نخب معارضة تثق بالدعم الخارجي ولا تثق بالديمقراطية...إلخ.
يركز بشارة على ثقافة النخب لأنها ثقافة مؤثرة أكثر بكثير من الثقافة الشعبية السائدة، ولا سيما في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تلي الثورات. فالنخب هي من سيضع الدستور، وهي من يقود المداولات حول شكل الحكم القادم
وبالرغم من أن الثقافة الديمقراطية تنمو مع الممارسة، فإنه من غير المقبول أن تجد نخبا عربية معارضة تعاني من كل تلك العيوب السياسية. وهنا يطرح بشارة نقطتين أساسيتين لا بد من توافرهما في الثقافة السياسية للنخب العربية: الأولى قبولها بمبدأ حل الصراعات سلميا، والقابلية للحوار والمساومات السياسية بين الفرقاء السياسيين، أما النقطة الثانية فهي القبول بالمؤسسات الديمقراطية وإجراءاتها كإطار ثابت للعمل السياسي، بما في ذلك ممارسة السياسة عبر التعامل مع الجميع كمواطنين يتمتعون بحريات سياسية كاملة.
يمكن استخلاص عدة قضايا من تفكير بشارة السياسي بقضية ضعف الثقافة السياسية للنخب العربية المعارضة. الأولى أنه من غير المجدي أن نلوم، بشكل دائم، الآخر، سواء أكان هذا الآخر الأنظمة التسلطية أم كان القوى الخارجية ومصالحها، ذلك أن أهم أنواع النقد هو النقد الذاتي، فنحن ربما لا نقوى على تغيير مصالح القوى الكبرى واستراتيجياتها؛ ولكننا نستطيع، بالتأكيد، تغيير أنفسنا. النقطة الثانية أنه من الأفضل للفكر السياسي العربي أن يستنتج أفكاره من تحليل الواقع العربي، المعقد والمتدفق، لا أن يكتفي بتطبيق جامد للنظريات السياسية العالمية. وهذه المعضلة أصبحت من معوقات البحث السياسي العربي، وقد آن أوان بناء علاقة تفاعلية/ نقدية بين تلك النظريات والواقع المذكور.
أما النقطة الثالثة فتتعلق بضرورة تصحيح بعض الأفكار السياسية الشائعة المحبطة التي تربط بين الثقافة السياسية للشعوب والتحول إلى الديمقراطية، وهي أفكار ونظريات تحمل داخلها نظرة ثقافية استعلائية تجعل من بعض الشعوب غير قابلة للتحول الديمقراطي إلى أن تتخلى عن ثقافتها، وهنا ينتقل بشارة من تفكيك الواقع العربي إلى فضح عنصرية بعض النظريات السياسية، العربية وحتى العالمية.
ولذلك نجد بشارة يدعو إلى تأسيس علوم اجتماعية عربية، تحلل وتفكك الواقع العربي بنفسها، ولا تكتفي بترديد النظريات السياسية العالمية. الاستعانة بتلك النظريات أمر مهم وأساسي ولكن التعامل النقدي معها هو الأهم. فالعلوم الاجتماعية ليست محايدة كما يشاع، وليست منفصلة عن ظروف شعوب بعينها. وهي ليست أكثر من استجابة علمية لواقع معقد بعينه.
غير أن الاستجابة العلمية للنخب العربية الأكاديمية تجاه الواقع العربي تعاني من مشكلات جمة، لقد ضخمت التراث على حساب الواقع الحالي وتلطت بالثقافة للتهرب من السياسية، واختلقت مشكلات مزيفة للعربي وطلبت منه حلها بنفسه، ولكن أن يصل الأمر إلى أن يتحمل هذا العربي مسؤوليات عدم ديمقراطيتها وضعف ثقافتها السياسية فهذا كثير, وكثير جدا.