في ذاكرة التيار الإسلامي السوري ندبة تؤرخ لإحدى محطات صراعه على المجال العام، وتمثلت في مقالة «الطريق لخلق إنساننا العربي الجديد» التي نشرتها مجلة «جيش الشعب»، التي كانت تصدر عن «إدارة التوجيه المعنوي» للجيش، في الأسبوع الأخير من نيسان في عام 1967. وحملت توقيع إبراهيم خلاص، وهو اسم لم يكن معروفاً، يحمل رتبة لم تعد موجودة في أنظمة الجيش السوري، هي «المرشح»، وكانت منزلة بين أدنى رتب الضباط «الملازم» وأعلى درجات صف الضباط «المساعد أول».
ما مكّن المقالة من أن تتحول إلى شرارة تهدد بإشعال لهب الصدام الأهلي أمران؛ أولهما الأرضية المتصاعدة لسنوات من الاحتقان بين سلطة حزب البعث، العلمانية الاشتراكية التأميمية المستندة إلى حكم الضباط من أبناء الفلاحين، والذين كان يتزايد بينهم نفوذ الأقليات الطائفية، وبين شريحة واسعة من سكان المدن الكبرى، السنّية مذهبياً والمحافظة اجتماعياً والتجارية أو الحرفية مهنياً، بعد أن فقدت تمثيلها السياسي الذي كانت تشغله الأحزاب التقليدية المكوّنة من أعيان المدن وإقطاعيّي الأرياف وقاعدتهم البشرية.
الأمر الثاني الذي ساعد المقالة على أن تصبح حديث الشارع هو مباشرتها وسيرها إلى هدفها دون مواربة ولا تزويق للألفاظ. إذ يقول خلاص إن «أمة العرب» استنجدت بالإله، وفتشت عن القيم القديمة في الإسلام والمسيحية، لكن ذلك لم يجدِ فتيلاً. لأن تلك القيم جعلت من العربي إنساناً متخاذلاً متواكلاً مستسلماً للقدر، لا يعرف إلا أن يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. في حين أن الطريق الوحيد الصحيح لبناء المجتمع هو «خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد» الذي يؤمن أن «الله والأديان والإقطاع والرأسمال والاستعمار» والقيم القديمة ما هي إلا «دمى محنطة في متاحف التاريخ».
لم ينظر التيار الديني إليها بوصفها مجرد مقالة عارضة نشرت في مجلة ليست واسعة الذيوع، بل على أنها تعبير مدروس، له ما وراءه
بالنسبة إلى الكثيرين بدت المقالة تعبيراً، صادماً وصادقاً، عما تكنّه السلطة البعثية الحاكمة وقتئذ، التي ارتبطت باسم صلاح جديد ووصلت إلى السلطة بانقلاب في شباط 1966 وكانت تعبيراً عن إحدى خلائط الماركسية القومية. ولذلك لم ينظر التيار الديني إليها بوصفها مجرد مقالة عارضة نشرت في مجلة ليست واسعة الذيوع، بل على أنها تعبير مدروس، له ما وراءه، صادر عن عمق اليسار الحاكم، نشر في مجلة رسمية تعبّر عن الجيش الذي كان مركز الاستقطاب.
بدأت ردات الفعل الغاضبة فور توزيع المجلة التي بيعت جميع أعدادها، وبأسعار أعلى مما هو مدوّن عليها، مما جعل الأمر اللاحق بسحبها من الأسواق غير ذي جدوى. وفي حسابات «القيادة» كان الأخطر أنها وصلت إلى بعض القطعات وأثارت سيلاً من الرسائل الغاضبة التي انهالت على بريد المجلة من عسكريين، بينهم ضباط، كتبوا باسمهم الصريح ما يقارب التهديد الذي وصل أحياناً إلى درجة أن ضابطاً برتبة مقدّم كتب قائلاً: «وضعت رصاصة في مسدسي لأطلقها على رأس رئيس التحرير». وما كان يزيد الأمر حرجاً هو أنه يخدم في الجولان، الجبهة التي كانت تسخن يومياً ترقباً لحرب حزيران الآتية بعد أربعين يوماً. كما بدا اهتمام قيادة الجيش بهذه النقطة كذلك من قول اللواء غازي أبو عقل، مدير التوجيه المعنوي، لأحد محرري المجلة: «إن أول ردود فعل نشر هذا المقال هو أن الضباط والجنود راحوا يصلّون داخل الخنادق وخاصة في الجولان».
لم تكن هذه الصورة متاحة في ذلك الوقت. أما ما كان ظاهراً على السطح فهو غليان رواد المساجد، وخاصة في دمشق التي اجتمع بعض كبار شيوخها لتقدير التصرف الواجب اتخاذه. وقد وجد هؤلاء أنفسهم أمام خيارات ثلاثة؛ أولها تغيير المنكر باليد والدخول في معركة حقيقية مهما كانت النتائج، وهو ما رأوا أنه سيؤدي إلى هزيمة المسلحين الأهليين الذين قد يعتمدون عليهم أمام قوة الجيش المنظمة، وسيخلّف خسارة موجعة للتيار الديني. في حين أن تغيير المنكر بالقلب وتجاهل الموقف سيؤدي غالباً إلى ارتفاع صوت اللادينية في البلاد بعد أن اختبرت الأمر. فاتخذوا قرارهم بالتغيير باللسان والاقتصار عليه، بإعلان موقف مستنكر يقول «كلمة الحق بصراحة وحكمة» من على المنابر، ومطالبة السلطة بالتبرؤ من هذا «الاتجاه الإلحادي» وشجبه، والمجلة بالاعتذار عن نشره.
كان أبرز من اتخذوا هذا القرار حسن حبنّكة الميداني، الذي كان قد وصل إلى درجة من التأثير جعلته الأول بين المشايخ السوريين وقتئذ. وفي يوم الجمعة التالي ألقى الخطبة في مسجده، جامع منجك بحيّ الميدان الدمشقي، محاولاً الجمع بين الموقف الحازم وبين ضبط غضب المصلين كيلا ينطلقوا في مظاهرة غير مأمونة العواقب. ولعل خلاصة الخطبة تتركز في قوله إن كاتب المقال مدسوس. «وإن كان غرضُ مَن دسه استثارة غضب الشعب لاستدراجه إلى ثورة دموية تُسفَك فيها الدماء فما جاء وقت ذلك، ولكل أجل كتاب. وإن كان غرضُ مَن دسه جس نبض الأمة ليعرف مقدار ما بقي فيها من حماس وغيرة على دينها فليعلم أن هذا الشعب لا يزال مؤمناً بالله».
اعتقل حبنكة إثر خروجه من الجامع بدعوى طلبه للقاء وزير الداخلية محمد عيد عشاوي. وأودع في سجن القلعة، في الغرفة نفسها التي سبق وأن سُجن فيها سلفه ابن تيمية قبل قرون، كما يحلو للرواية أن تقول. وأغلقت «جمعية التوجيه الإسلامي» المرتبطة به وصودرت مدارسها ومبانيها وممتلكاتها. في حين أصدر رئيس الأركان، اللواء أحمد سويداني، بياناً متوتراً حمل، في نصفه الأول، على من سماهم «المأجورين» الذين انتفضوا ضد المقال، الذي وصفه بدوره بأنه «مدسوس»، في الشطر الثاني من البيان.
وبناء على ذلك قبضت السلطة على كاتب المقالة وعلى رئيس تحرير المجلة عدنان حمام، وهو فنان تشكيلي حمصي معتمد في التوجيه المعنوي للجيش العقائدي البعثي وقليل الخبرة بالعمل الصحفي. وعلى رئيس ديوانها. ولاحقت سكرتير تحريرها الذي فر إلى لبنان. واتهمتهم بالمشاركة في مؤامرة أميركية رجعية لإثارة البلبلة في البلاد. وبسرعة أصدرت عليهم المحكمة العسكرية الاستثنائية، التي رأسها حينذاك المقدم مصطفى طلاس، الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة.
ظل إبراهيم خلاص شخصاً غامضاً في المخيلة الإسلامية التي كثيراً ما أشارت إليه، بناء على معالم الصراع الطائفي الذي تبلور لاحقاً على الأرجح، على أنه «ضابط علوي» جرى تكليفه بهذه المهمة المستفزة من قبل جهات عليا في الحزب والجيش وكوفئ على ذلك. في حين أن تتبع سيرته الشخصية ينبئ عن صراع أيديولوجي أعمق.
ولد محمد إبراهيم بن محمد صديق خلاص في حيّ الصليبة باللاذقية، في عام 1940، لعائلة تجار سنّية ميسورة. تبنى الأفكار اليسارية منذ يفاعته مما قاده إلى عضوية جناح أكرم الحوراني من حزب البعث. حاز الثانوية الصناعية في القاهرة في زمن الوحدة وانتسب إلى كلية الهندسة ولم يتخرج فيها بسبب عودته إلى سوريا إثر استيلاء الحزب على حكمها بانقلاب 8 آذار 1963. فتطوع في الكلية البحرية ومال، بعد خروج الحوراني من المشهد، إلى تيار «الشباطيين» عبر ابن مدينته القيادي فيه محمد رباح الطويل. لكن وجوده في السجن، بعد نشر المقالة، أبعده عن سراط الشرخ الذي أحدثته «الحركة التصحيحية» بقيادة حافظ الأسد في الحزب والسلطة. وللمفارقة كان الأخير من أصدر العفو عنه بعد أن طلب منه أبو إبراهيم ذلك في إحدى زيارات الرئيس الجديد الترويجية الجماهيرية لمدينة اللاذقية. وضمن توجه الأسد لاستقطاب من يمكن من رجال العهد القديم واستمالة الرفاق عيّن إبراهيم مديراً لمعمل الأخشاب في اللاذقية. وهو ما لم يدم طويلاً بسبب عدم استجابته لطلبات وتدخلات مسؤولين محليين في الحزب.
في عام 1997 دهمت دورية من المخابرات منزله واقتادته إلى دمشق حيث اتهم بكتم المعلومات عن صلته الشخصية بمعارضين بعثيين كانوا في العراق
في عام 1976 غادر إلى الكويت حيث عمل مديراً لمعرض بيع مفروشات. وامتنع عن زيارة سوريا التي اضطر إلى العودة إليها بعد غزو عراق صدام حسين للكويت. ومنذ ذلك الحين، في عام 1991، تعرض مرات للاستدعاء والتحقيق لم تمنعه من المشاركة في عزاء صلاح جديد إثر وفاته. وفي عام 1997 دهمت دورية من المخابرات منزله واقتادته إلى دمشق حيث اتهم بكتم المعلومات عن صلته الشخصية بمعارضين بعثيين كانوا في العراق. وحكم عليه بست سنوات قضاها في سجن صيدنايا.
بعد خروجه، في آذار 2003، كان مريضاً نتيجة التعذيب، ومجرداً من حقوقه السياسية والمدنية، ومحروماً من الحصول على الوثائق الشخصية الرسمية، حتى وفاته في آب من عام 2014.