تعود مشكلة اللامبالاة السياسية في المجتمع، والتي تأخذ أشكالاً متعددة منها: عدم المشاركة السياسية، الشعور بلا جدوى السياسة، ربط السياسة بالكذب والمؤامرات، عدم الثقة بالسياسيين بشكل مسبق، التسليم بوجود "قدرية سياسية" إذا جاز التعبير، إلى أن آثارها على الناس والمجتمع وخيمة وكارثية، لأنها تخرج الناس من حسابات السياسة ليستفرد بها الحكام. ولذلك نجد أن الأنظمة التسلطية غالباً ما تسعى إلى رفع درجة تلك اللامبالاة لدى الناس إلى أقصى ما يمكن، حتى إن تلك الأنظمة جعلت من هذه اللامبالاة هدفاً بحدّ ذاته. ولكن كيف ذلك؟
لجأ النظام السوري إلى طريقتين أساسيتين لإبعاد السوريين عن السياسة: الأولى هي استيلاء حزب البعث، وشركائه الشكليين في الجبهة الوطنية التقدمية، على مجلس الشعب والنقابات والاتحادات بنسبة الثلثين، الأمر الذي مكنه من السيطرة على القرارات في تلك الكيانات السياسية بشكل كامل، دون النظر إلى مواقف الآخرين. وقد عزز هذا النهج بمنع تشكيل الأحزاب واحتكار وسائل الإعلام.
أراد النظام الأسدي ترسيخ مفهوم للسياسة في وجدان السوريين يقوم على الخشية منها، وتركها له ولأجهزته الأمنية
أما الطريقة الثانية فهي التخويف من السياسة، وهي أسلوب تحول إلى نهج قائم بذاته ويستند إلى استبعاد كل المخالفين السياسيين بالقوة، وزجهم في السجون والمعتقلات. وقد وصل الأمر إلى أقصاه عندما تحول نهج القوة إلى ارتكاب المجازر الجماعية، حين يستدعي الوضع ذلك، كما حدث في مدينة حماة في مطلع الثمانينيات، ثم عاد هذا النهج، وبشراسة أكبر، بعد اندلاع الثورة عام 2011.
في كل الأحوال أراد النظام الأسدي ترسيخ مفهوم للسياسة في وجدان السوريين يقوم على الخشية منها، وتركها له ولأجهزته الأمنية، وتحويل هذا الرأي، أي ترك السياسة للسياسيين، إلى مسلمة يدركها الناس بالفطرة. وقد ظهر هذا الأمر من خلال الأمثال المتداولة بين الناس التي ترى في السياسة "لعباً في النار", و"وياما خربت بيوت"، وما إلى ذلك من أقول تربط السياسة بالكذب والدجل، وتخّوف الناس منها.
يعود ربط السياسة بالكذب والاحتيال إلى مكيافيلي الذي كان يبرر للحكام القيام بمثل تلك الأفعال لضمان سيطرته على المجتمع. ومنطلق مكيافيلي في ذلك أن البشر أشرار بطبعهم ولا ينفع معهم إلا تلك الأساليب، حتى الفيلسوف البريطاني توماس هوبز شاركه هذه النظرة وأباح للحاكم المضي في الطرق غير الأخلاقية لفرض حكمه بالقوة، لأن الإنسان، وفق ما كان يردد "ذئب لأخيه الإنسان".
غير أن نظرة تاريخية لعصر مكيافيلي تبين أن الرجل كان يبرر ما كان سائدا في عصره من فساد سياسي واحتكام للقوة والمؤامرات والاحتيال، وأن السياسة اليوم تغيرت كثيرا، وإن كانت على المستوى الشعبي لا تزال تتمتع بسمعة سيئة.
المفهوم الأساسي الذي ينظم العمل السياسي اليوم، من أوله إلى آخره، هو الديمقراطية، وكما تردد حنا أرندت البحث عن الحرية هو جوهر السياسة. فالسياسة هي عمل ونضال وتضحيات من أجل الحرية والحقوق والعدالة، هي ثورات وخيبات، وصراع قد يستمر مئات السنين، ولكنها عمل لا يقبل التنازل أو ترك الميدان، إنها لعبة من قواعدها أن الذي يترك يسلم بالخسارة.
النظام الأسدي نظام مكيافيلي في باطنه يعتقد أن السوريين كلهم أشرار ولا ينفع معهم إلا الحديد، وهو اعتقاد سائد لدى معظم حكام المنطقة. الطامة الكبرى أن هذا الاعتقاد سرى بين عدد لا بأس به من السوريين (العراقيين بدرجة أكبر) وأخذ كثير منهم يردد أن الشعوب لا تحكم إلا بحاكم قوي ومستبد، وهو ما تجسد بالعبارة الشائعة "هاي الحرية اللي تريدونها"، في إشارة إلى حالة الفوضى التي آلت إليها الأوضاع بعد الثورة، وأن الشعب لا يعرف كيف يمارس الحرية.
في التحليل السياسي هناك فرق بين اللامبالاة السياسية في الدول الديمقراطية واللامبالاة السياسية في الدول التسلطية. في الدول الديمقراطية هي مسألة اختيار وحرية شخصية، فالناس يشاركون في الانتخابات بنسبة ضعيفة، وهذه النسبة تعود إلى حالة الرفاه التي وصل إليها شعب من الشعوب لدرجة أن السياسة لم تعد تعنيه كثيرا، بسبب ترسخ النظام الديمقراطي من جهة وتشابه السياسيين المتنافسين من جهة ثانية. ولهذا النوع من اللامبالاة أيضا ثمنه، فألمانيا، على سبيل المثال، لم تكن نازية عندما وصل هتلر للسلطة، والحزب النازي لم يتمكن من الحكم بمفرده لأنه لم يصل إلى نسبة 50% مما اضطره للتحالف مع أحزاب أخرى، وأن نسبة التصويت لم تكن مرتفعة، وهذ يعني أن الذين لم يصوتوا في انتخابات ألمانيا، في ذلك الحين، ولم يكونوا نازيين، يتحملون، بشكل جزئي، وزر وصول الحزب النازي للسلطة، وأوزار الحرب التي دمرت ألمانيا وقسمتها في ذلك الوقت.
أما في الأنظمة المتسلطة فالناس يجبرون على اللامبالاة والابتعاد عن السياسة، ثم يتحول الأمر إلى عادة عقلية. والإنسان ابن عاداته - كما يردد جون ديوي - وهو لا يميل إلى التفكير في تلك العادات لأنها تتحول إلى مسلمات. وهذه معلومة مبهجة بالنسبة لأنظمة من قبيل النظام الأسدي وأشباهه في المنطقة. بالنسبة للأسد شكل اهتمام السوريين بالسياسة أكبر تحدٍ منذ وصله – بالقوة - إلى السلطة، لاسيما وأن هناك كلاما متداولا بين الناس قاله شكري القوتلي لجمال عبد الناصر عند قيام الوحدة مفاده: أن السوريين شعب سياسي بالفطرة ومهووس الزعامة.
أراد النظام الأسدي ترسيخ مفهوم للسياسة في وجدان السوريين يقوم على الخشية منها، وتركها له ولأجهزته الأمنية
يرتقي الموقف اللامبالي بالسياسة، بحجة أنها " كذب بكذب" أو "لا تقدم ولا تؤخر" أو "كلها مؤامرات" إلى أن يوصف بالموقف اللامسوؤل بل واللاأخلاقي، لأنه بكل بساطة تنازل عن حق دفعت الشعوب، ومنها السوريين، ثمنا باهظا من أجل أن تناله. فالمشاركة السياسية، والحق في السياسة، شكل أساسي من مقاومة الشعوب للطغاة، ورفض سعيهم إلى أبعادها عن السياسة، لكي يفعلوا ما يحلو لهم دون حسيب أو رقيب.
ولا معنى لإيمان الإنسان بحقه بالحرية والعدالة والمساواة دون إيمانه بحقة في السياسة والعمل السياسي والمشاركة السياسية. فمن يتنازل عن حقه في السياسة، أيا كانت الظروف، وهي ظروف – على الأغلب - مصنوعة ومبنية من أجل دفع الناس لترك السياسة، سيتنازل بالنتيجة عن حقوقه ودوره، سواء كان يدري بذلك أو لا يدري.
نقول ذلك لأن هناك كثيراً من السوريين، على الرغم من إيمانهم بالثورة وأهدافها السياسية الكبرى، ولكنهم فضلوا الابتعاد عن السياسة لأنهم فقدوا ثقتهم بها، بعد الأهوال والمواقف اللاعادلة التي صدموا بها. ولكن التاريخ السياسي يبين وبوضوح أن السياسة هي صراع دائم لا ينتهي (الصراع السياسية في بريطانيا مستمر منذ أكثر من 300 عام وما زال، وآخره كان الصراع حول بقائها في الاتحاد الأوروبي)، وأن الثورة السورية ما هي إلا جولة من عشرات، وربما أكثر، من جولات الصراع من أجل امتلاك السياسة، وعلى السوريين أن يدركوا أن من لا يملك السياسة سيُمتلك من السياسيين الفاسدين الذين ابتلينا بهم، وهؤلاء قصة أخرى تحتاج إلى مجلدات.