بعيداً عن موطنه في قرية لوبية الفلسطينية التي هُجِّر منها طفلاً في أثناء النكبة، وعن مخيم اليرموك الذي نشأ فيه ونزح منه عندما اشتدت المعارك فيه بعد الثورة السورية؛ أسلم أبو ثائر الروح ليطوي معه سراً لم يكن خافياً عمن حوله، وصنع حياته المتقلبة التي دامت أكثر من ثمانين عاماً حتى خريف 2022. وهو دوره في اغتيال اللواء محمد عمران، وزير الدفاع السوري لمدة ما من الستينات.
من عرفوا يوسف مرزوق عودة في شبابه يصفونه بالتميز والذكاء والحيوية. ويتذكرون كيف دخل بسرعة نادي العلاقات مع قادة حزب البعث الحاكم منذ عام 1963، عضواً في «الحرس القومي» المسلح للدفاع عن «الثورة» في البداية، ثم في منظمة «الصاعقة» التي أنشأها الحكم السوري في الستينات لتكون ذراعه الفلسطينية المقاتلة. وعندما اختلف رفاق الأمس كان عودة من الذين انحازوا إلى حافظ الأسد، مع تيار زهير محسن الذي عيّنه قائد «الحركة التصحيحية» على رأس المنظمة بعدما انتزعها من خصومه وأجرى فيها انقلاباً يوازي ما فعله في البلاد.
كانت أمور أبي ثائر في تقدم مطرد في تلك السنوات، فقد كان يراهن على الحصان الرابح دوماً، حتى جاء ذلك اليوم من آذار 1972، عندما رجع مما بدا أنه مهمة. ولم تمض أيام قليلة على الوليمة العائلية التي احتفلت بعودته حتى فوجئ بدورية المخابرات التي اعتقلته لسبب عُرِف بسرعة وهو مشاركته في قتل محمد عمران، الرجل القوي السابق.
انقطعت أخبار يوسف لسنوات غير أن دورية لم تنقطع عن زيارة شهرية لإيصال راتبه إلى عائلته التي أتيح لها، في ما بعد، فرصة أن تزوره في السجن، ثم لزوجته أن تقضي عنده يوماً في الأسبوع وتصف الوفرة التي كان يعيش فيها. فقد كان، والمجموعة المعتقلة معه بسبب اغتيال عمران، «وديعة» كما كان عودة يصرّ على إفهام مدير سجن تدمر، وكانت جميع طلباتها من الاحتياجات ملباة، حتى اللحوم والفواكه والعسل.
يتقاطع هذا مع ما رواه عودة نفسه بعد الإفراج عنه، ومع شهادة سجناء لمحوا أحد أفراد المجموعة المعزولة وهو يتدرّب برفع الأثقال الحديدية وتمرينات كمال الأجسام، مما كان مشهداً شديد الغرابة في باحة «الذاتية» بسجن تدمر. كما ترد شهادة مشابهة عن المجموعة، المؤلفة من رجال متيني البنية، عندما كانت في سجن المزة في وقت ما وهي تتساءل: «ماذا فعلنا؟! نحن نفذنا الأوامر!».
خرج أبو ثائر في عام 1992، بعد عشرين عاماً. وربما يشير هذا الرقم إلى محاكمة صورية أو ورقية هدفت إلى تحميلهم المسؤولية. حصل على تعويض مالي أودعه عند أحد معارفه للتشغيل، واستمر في استلام راتب شهري من جهة رسمية لم يفصح عنها. ساعد بعض أقاربه وأصدقائه عندما اعترضتهم مشكلات في الدوائر الحكومية أو مع أجهزة الأمن. وعند الضرورة كان يسرّ للمقربين بأنه يحمل رتبة «عميد» في إدارة المخابرات العامة (أمن الدولة)، رغم أنه لم يداوم إلا على مضافة فتحها في المخيم صار الأقارب والأصدقاء يترددون إليها يومياً لشرب الشاي ولعب الورق والطاولة والتنسيق لأداء الواجبات الاجتماعية من تهنئة وتعزية.
محمد عمران
ولد في قرية المخرّم الفوقاني شرقي حمص لرجل دين علوي يملك قطعة أرض ويحوز بعض الوجاهة المحلية. في عام 1947 نال محمد الشهادة الثانوية وانتمى إلى حزب البعث ثم التحق بالكلية الحربية. قضى حياة عسكرية كفوءة وطموحة خلال الخمسينات. ثم ترأس الطبعة الثانية من «اللجنة العسكرية» التي أسسها ضباط بعثيون في القاهرة زمن الوحدة، إذ كان الضابط الأعلى بين أعضائها الباقين في الجيش، برتبة مقدم. شارك بفعالية في انقلاب حزب البعث المسمى ثورة الثامن من آذار 1963. وبعده صار عضو مجلس قيادة الثورة وعضو مجلس الرئاسة، منافساً لأمين الحافظ تارة ومتحالفاً معه أخرى، حتى تبلور شقاقه مع رفيقيه السابقين، صلاح جديد وحافظ الأسد، اللذين زجا به في السجن بعد الانقلاب الداخلي في الحزب والدولة في 23 شباط 1963، وكان قبلها وزيراً للدفاع. ولم يخرج إلا إبّان هزيمة حزيران التي منيت بها سوريا والبلاد العربية أمام إسرائيل في عام 1967، ليقيم في مدينة طرابلس اللبنانية.
يقول عارفو أبي ناجح إنه لم يمض يوماً في منفاه من دون أن يفكر في سبل العودة إلى السلطة. وبالنسبة إلى حافظ الأسد، المتربع على حكم دمشق منذ 1970، كان عمران خصماً عنيداً. ففي عام 1964 عارض بشدة ترفيع الأسد، استثنائياً، إلى رتبة لواء. واحتجاجاً على ذلك استقال عمران من الجيش وكشف للقيادة السياسية للحزب عن وجود اللجنة العسكرية، التي كانت سرّية حتى ذلك الوقت، واتهمها بالتخطيط للهيمنة.
ومن مخبئه اللبناني كان عمران مصدر خطر متزايد، لا سيما بعد أن لوّح أكثر من مرّة بالعودة إلى دمشق متحدياً الأسد أن يجرؤ على اعتقاله، معتمداً على بقايا الضباط الذين يدينون له بالولاء، الذين كان بعضهم ركيزة للأسد في انقلابه. وبشكل ما جمع عمران بين الأفضلية على الأسد داخل الطائفة وبين علاقات حسنة مع الوسط التجاري الدمشقي والبيئات اليمينية. وفضلاً عن هذا كانت علاقاته مع القيادة القومية والزعماء التاريخيين للحزب جيدة، وكذلك مع منظمات البعث في بعض الدول العربية ومع قوى وحدوية. وكان يتوقع تأييداً من الغرب ومن السعودية والخليج. وأخيراً كان قد أصدر كتابه الكبير «تجربتي في الثورة» الذي أراد العبور به من صورته كضابط سابق إلى موقع المنظّر في الفكر القومي اليساري متجاوزاً المنطلقات النظرية والتأسيسية للحزب، واعداً بكتاب ثان عن «التاريخ الخفي» للتجربة البعثية في عشرين عاماً، يعرض «الأحداث والأشخاص بصورة تفصيلية».
تفاصيل العملية
في وقت ما من مطلع عام 1972 قرر حافظ الأسد أن محمد عمران قد يشكّل تهديداً جدياً لحكمه، وأن الحلول الوسط لم تنفع معه، وأن لا بديل عن التخلص منه. يتفق على هذا التحليل مراقبو تلك المرحلة ومؤرخوها، غير أن التفاصيل ظلت موضع تكهنات مع فشل أجهزة التحقيق اللبنانية في القبض على الفاعلين أو تحديد أسمائهم، واقتصار ما عُرف عن القضية وقتئذ بأن المتهَمين اثنان؛ رجل وامرأة شوهدا يفرّان من البناء. والمرجّح أن الرجل هو من أطلق على عمران الرصاص من مسدس كاتم للصوت، بعد أن قرعت المرأة عليه الباب، ووقعت منها هوية أردنية باسم صبحية نفاع، مولودة في الضفة الغربية، عُثر عليها في مسرح الجريمة.
لكن مصدراً مطّلعاً على القصة يروي تفاصيلها التي تُنشر هنا لأول مرّة.
بدأ الأمر حين استدعى الأسد الرائد نزيه زرير، رئيس فرع المخابرات العامة بحمص، بسبب موقعها الجغرافي القريب من لبنان، وكلفه بإعداد خطة لاغتيال عمران، ووضع جميع الإمكانيات تحت تصرفه، وأمره بالتعاون مع منظمة الصاعقة والاستفادة من وجودها القوي هناك.
وبدوره طلب زرير أحد ضباطه الموثوقين من أصل لبناني، وهو النقيب مصطفى أيوب، وكلفه بالمهمة. وضع أيوب الخطة التي تدارسها مع رئيسه ثم تم تنفيذها. وتألفت من ثلاث مجموعات:
وحدة التنفيذ: وتألفت من أيوب كقائد ميداني ظل في السيارة، ورقيب متطوع في الشرطة العسكرية منقول إلى المخابرات هو الذي أطلق النار، وقناص في حال فشل الاغتيال المباشر. دخل الثلاثة إلى لبنان قبل العملية مباشرة، فرادى بسيارات مختلفة ومن منافذ حدودية متعددة وبهويات لبنانية مزورة، وعادوا فوراً فرادى وبسيارات مختلفة أيضاً من منافذ غير نظامية ولم يسجلوا خروجاً.
وحدة المراقبة: قادها بسام جهماني رئيس القسم الخارجي في فرع حمص. وهو مدني ظل في موقعه أكثر من ثلاثين عاماً. ومعه في هذه الوحدة شخص أو اثنان. عبرت الحدود بنفس الطريقة، بهويات لبنانية مزورة، وعادت فور تموضع وحدة التنفيذ، وأيضاً لم تخرج ورقياً من لبنان.
وحدة الدعم اللوجستي: كانت من «الصاعقة». وتولت دراسة المنطقة وتأمينها ومعرفة المداخل والمخارج والحي والبناء والسكان ومراقبة أوقات الهدف وتأكيد وجوده في البيت وتأمين الطعم (المرأة) ثم إخلاء الأرض.
بعد العملية استقبل الأسد مصطفى أيوب وعيّنه رئيساً لفرع حمص للمخابرات العامة. أما زرير فقد تأخرت مكافأته حتى ترفعه إلى عقيد فعيّن مديراً للإدارة.
لم يكن اعتقال مجموعة الدعم ضمن الخطة لكنهم أوقفوا لأن أحدهم أخذ يثرثر، وبسبب سقوط هوية نفاع في المنزل مما قد يشكّل طرف خيط لأي تحقيق جاد. ظل مصيرها مجهولاً فيما لم يبق من الرجال، الذين لم يُعرف عددهم على وجه الدقة، ويتراوح بين اثنين وخمسة، سوى واحد يقيم اليوم لاجئاً في إحدى الدول الأوروبية ويمتنع عن التصريح.
كلّف حافظ الأسد قائد المنطقة العسكرية الوسطى بتمثيله في جنازة عمران في المخرّم. لكنه مشى بالفعل في جنازة القاتل، زهير محسن، بعد اغتياله في فرنسا، ولم يمكن تشييعه إلى «مقبرة الشهداء» في المخيم إلا سيراً على الأقدام..