احترفت روسيا عبر تاريخها الطويل في الحروب "الباردة" و"المسلحة" لعبة تفخيخ العقول بأفكار تناقض الواقع وتخالف الحقائق، وفي كل ميدان دخلته كانت تعمل على ترويج هدف ظاهري لنواياها يختلف عما تريد تحقيقه بالفعل، وفي السنوات الأخيرة بدا ذلك جلياً في كل من سوريا وأوكرانيا.
سارت الوريثة "الشرعية" للاتحاد السوفييتي على خطاه في الجاسوسية واختراق الشعوب والأنظمة ومحاكاة مفاهيمها واستغلال نقاط الضعف فيها للتغلب عليها، مع ملاحظة الفرق الكبير في أساليب الجاسوسية بين ثلاثينيات القرن الماضي وبين الأساليب المتوافرة اليوم.
وتقول دراسة لـ معهد واشنطن للدراسات، إن التلاعب بالمعلومات يشكل إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية التي تستخدمها روسيا من أجل المضي قدما في تطبيق أجندتها المعادية للغرب. ويصف ديمتري كيسليوف، أحد أبرز مروجي الدعاية في الكرملين، الصحافة على أنها تكتيك حربي: "إذا استطعت إقناع شخص ما، ليس عليك قتله. فلنفكر بما هو أفضل: القتل أو الإقناع؟ لأنك إذا عجزت عن الإقناع، حينئذ يجب عليك القتل".
اقرأ أيضا: تقرير غربي: اعتماد خبرات "المصادر المفتوحة" في سوريا لتوثيق الجرائم في أوكرانيا
روسيا ولعبة الظل في سوريا
ففي زمن التطور التكنولوجي والأقمار الصناعية والطائرات المسيرة، باتت وظيفة التجسس أسهل بكثير من السابق، وصار من الممكن جمع البيانات والمعلومات بسرعة أكبر وخطورة أقل، وفي المقابل أصبح في الإمكان بث الأفكار التي تريد ترويجها بسرعة وسهولة من خلال وسائل الإعلام ومنصات التواصل وغيرها، وحشد الجيوش الإلكترونية لترهيب (العدو) بقوة موازية لتحركاتها على الأرض.
وبحسب مصالحها، تتحرك روسيا نحو الهدف عبر تكتيك مختلف في كل مرة، وتعنون توجهها بما يناسب المرحلة؛ ففي سوريا، استغلت موسكو "المانشيت" العريض المناسب: "محاربة الإرهاب"، لتدخل الجبهات في عام 2015 وتنتشل نظام الأسد من التآكل الأخير الذي أصابه، حين عجزت إيران وميليشياتها المختلفة عن مساعدته على (الانتصار) أمام الثورة.
واستطاعت موسكو توظيف جهودها الاستخبارية في الغرب لاستخدام الملفات الملائمة التي تخدم تدخلها في سوريا ولم تكن لتترك الأمر للقدر أو التوقعات حول ردة فعل المعسكر الغربي بقيادة أميركا على تحركها هذا.
وشكل هجوم النظام على الأحياء الشرقية التي كانت معقل فصائل المعارضة في مدينة حلب بعد حصار خانق أول مثال على التدخل العسكري الروسي الذي رجح كفة المعركة لقوات بشار الأسد. وبدءاً من منتصف تشرين الثاني 2016 كثفت روسيا هجماتها على الأحياء الشرقية ما ساعد النظام على بسط سيطرته بالكامل على المدينة في نهاية شهر كانون الأول.
ورغم إعلانها الصريح عن دخول معركة سوريا فإن روسيا أرادت الاستمرار بلعبة الظل التي تحترفه، وأدخلت "فاغنر" إلى أرض الصراع إلى جانب قواتها الرسمية (الجيش الروسي)، تلك المجموعة العسكرية التي كانت تبدو من الخارج غير مرتبطة بروسيا بشكل مباشر وتمتلك استقلالية في حيز كبير من قراراتها، إلا أن وقائع وتقارير عدة أثبتت التنسيق الكامل بين مجموعة فاغنر في سوريا والقوات الروسية الرسمية.
وفي وقت سابق قالت صحيفة واشنطن يوست، إن القوات الروسية ارتكبت جرائم حرب لا تحصى في سوريا على مدار العقد الماضي. واليوم، يستعين بوتين بالأشخاص والأسلحة والأساليب نفسها التي استخدمها في تلك الجرائم ولكن هذه المرة في أوكرانيا.
اقرأ أيضا: وثّقت جرائم "فاغنر" في سوريا.. محكمة روسية تقضي بحل منظمة حقوقية
وأوكلت روسيا لفاغنر المهام الأكثر حساسية في الصراع مع "قوات سوريا الديمقراطية" وأميركا، أحدها كان محاولة السيطرة على محطة غاز "كونوكو" في عام 2018 والتي تقع تحت سيطرة "قسد"، ليبدو انخراط روسيا العسكري في سوريا -رغم الوحشية وأسلوب الصدمة الذي اتبعته بالهجمات المتكررة- أقل بكثير مما هو على حقيقته، فمثلت هذه المجموعة يد روسيا وعينها خارج قاعدة حميميم القاعدة التي تتمركز فيها القوات الروسية.
إضافة إلى ذلك عملت فاغنر على حماية البنية التحتية الحيوية التابعة للنظام مثل منشآت الطاقة والمؤسسات الرسمية وغيرها وإعطاء إحداثيات للطائرات والمدفعية، لتخدم روسيا حليفها الأضعف في توازن القوى ضمن سلسلة تحالفات ضد الغرب تضم أيضاً إيران والصين.
فاغنر تخدم زيف الدعاية الروسية
ومهام فاغنر لا تتوقف عند حدود فقد خدمت روسيا في دعايتها المزيفة كذلك وبشكل خاص تلك الموجهة إلى الشعب الروسي، فعبر انخراط روسيا بالحروب في سوريا وليبيا وأفريقيا وأوكرانيا أخيراً تحاول موسكو الحفاظ على الرأي العام الداخلي في مساندتها، وبالطبع لن يكون سهلاً عودة مئات القتلى من الجيش الروسي بشكل متكرر ومتواصل، قد يقلب ذلك الطاولة على بوتين، أما قتلى فاغنر الذين يعتبرون مرتزقة يعملون في شركة عسكرية خاصة "غامضة" فلن تكون السلطات الروسية مسؤولة عن مقتلهم أمام الرأي العام.
وأحد مكاسب روسيا في سوريا كانت الخبرة التي اكتسبتها مجموعة فاغنر في أرض المعركة وتجربة أساليب عدة من القتال إلى الجاسوسية وضم مزيد من المقاتلين، ذلك بالإضافة إلى تحقيق ما أراده بوتين من استعادة دور الاتحاد السوفييتي كلاعب دولي وهو أحد أحلامه الكبرى، فضلاً عن المكاسب الاقتصادية التي بدأت بالسيطرة على السواحل، والتي يعتبرها الأسد إرثاً طبيعياً من والده، فصار بإمكان موسكو التنقيب عن الغاز والنفط في المياه الإقليمية لسوريا والاستفادة منها.
وفيما بعد، عقب غزو أوكرانيا، استغلت روسيا شركة شحن "القرم-سوريا" لتسهيل نقل البضائع بن البلدين عبر البحر، وكانت آخر الواردات التي تلقتها سوريا من القرم، قمح أوكرانيا الذي نهبته روسيا وأرسلته من ميناء سيفاستوبول، متخطية العقوبات الغربية التي فرضت عليها منذ محاولتها دخول العاصمة الأوكرانية كييف.
وقبل غزو أوكرانيا بأشهر عدة عملت روسيا جاهدة على بث الدعاية حول تحول أوكرانيا إلى أداة في يد الغرب، وزعمت أنها تريد إطلاق ما وصفته بـ "عملية عسكرية" لحماية سكان دونباس.
وتمثلت "العملية العسكرية الخاصة" بحرب طاحنة استهدفت المدنيين قبل المواقع العسكرية، واستُخدمت فيها أشد أنواع الأسلحة فتكاً، وحوصرت فيها المدن، ولم تنتهِ باقتطاع أقاليم أوكرانية أربعة، أجرت فيها استفتاء مزيفاً لآراء السكان حول ضم المناطق إلى روسيا، وأعلنت الاستيلاء عليها أخيراً رغم الرفض العالمي للقرار.
ولم تخف روسيا استفادتها من التجربة السورية في أوكرانيا، حيث جربت كثيراً من أسلحتها ومنها مروحيات "روست فيرتول" وأسلحة محظورة وأخرى "غير تقليدية" في المدن السورية، وكررت استخدامها فيما بعد -عن خبرة- في معركة أوكرانيا، ما جعل صور الدمار في المدن الأوكرانية مشابهة تماماً لما خلفته روسيا خلفها في سوريا.
لذلك تختلف الأماكن والعناوين العريضة والمزاعم، وتبقى آلة الحرب واحدة، والأهداف تكاد تكون واضحة كالشمس، إلا أن على العالم أن يكون أكثر حسماً تجاه جرائم الحرب التي اقترفتها روسيا علناً تحت مسميات رنانة.