باتت سوريا منطقة مواجهة بين الميليشيات الإيرانية التي تتلقى ضربات يومية بظل سكوت روسي وتحلّ بالصبر الاستراتيجي من قبل طهران، ومحاولة واضحة من النظام السوري لعدم الدخول في الحرب والهرب من المواجهة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه حاليا بظل التصعيد الإسرائيلي والتهديد بتوسيع خطوط المواجهة مع حزب الله وإيران في لبنان، هل ستبقى سوريا بمنأى عن هذه المواجهة الموسعة حيث أصبح التباين الروسي الإيراني ظاهرا، بالرغم من أن إيران ستتكبد خسائر كبيرة في هذه المواجهة؟
العلاقات الروسية - الإيرانية الحديثة
تسعى روسيا في ظل حكم بوتين إلى النهوضِ مرة أخرى كقوة منافسة في النظام الدولي وذلك عبر تأكيد حضورها في الأقاليمِ العالمية. في حين تسعى إيران إلى إثبات أنها قوة إقليمية لها مصالحُها. وقد حرصت الدولتان على إقامة علاقة بينهما بما يخدم تلك التطلعات رغم العقوبات الأميركية والأوروبية على روسيا بعد ضم جزيرة القرم وتدخلها في أوكرانيا وسوريا والعقوبات الغربية على إيران على خلفية برنامجها النووي ومشروعها السياسي فكانت عامل تقريب بينهما.
تنظر روسيا إلى إيران باعتبارها دولة ذات موقع استراتيجي لا يمكن تجاهل تأثيره، سواء بالنسبة لها أو بالنسبة إلى مصالحِها في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط، لا سيما أن روسيا في مواجهة تهديدَين استراتيجيين:
- الأول هو محاولة محاصرتِها من جانب الولاياتِ المتحدة عبر تمدد حلف الناتو بغرض احتواءِ روسيا وتطويقِها والسيطرة على التوسع الإيراني.
- الثاني هو تهديد التنظيمات المتشددة التي أصبحت تنتشر في معظم دول وسط آسيا، وتتفق إيران مع روسيا وتشاركها مخاوفَها في ذلك، إذ إن الخلاف العقائدي والمذهبي مع بعض التيارات الإسلامية المتطرفة (وعلى رأسِها تنظيم الدولة)"داعش" يضعُها ومصالحَها ضمن مخاطر هذا التنظيم.
ثالثا مواجهة الهيمنة الأميركية بالحصار والعقوبات إلى حد التهديد بضربةٍ عسكرية ومحاولات تأديب النظام الإيراني.
الخلافات الروسية - الايرانية على سوريا
على الرغمِ من أن التعاون بين إيران وروسيا يتجاوز التقارب في ملفاتٍ وقضايا متعددة. فإنّ خلف هذا التحالف تظهرُ بعض الخلافات أو الاختلافات في وجهات النظر نتيجة لتعارض المصالح والرؤى، ومن الملفات الخلافية التي لا يمكن اعتبارها بسيطة الرؤية لمستقبل الدولة السورية ما بعد الثورة.
وعلى الرغمِ من التفاهم الروسي الإيراني في سوريا فإنَّ هذا لا يعني عدم وجود خلافات بين الطرفين، فإيران لا تخفي قلقَها من التفاهم الروسي مع تركيا وإسرائيل في سوريا، التي باتت ساحة لأطرافٍ عديدةٍ وبالإضافةِ إلى وجودِ خلافات أيضا حول مستقبل سوريا، تحبّذ موسكو حل الأزمة عن طريق سياسي يضمن بقاء سوريا موحدة ودولة ذات سيادة، فحرصت موسكو على اتباع سياسة التوازن وذلك من خلال إدارة تحالفاتِها بدقة مع بعض الأطرافِ الإقليمية في سوريا بمن فيهم إسرائيل.
بينما لدى طهران أولويات أخرى على رأسِها تعزيز النفوذ "العلوي" في سوريا بصرف النظر عن تداعياتِ ذلك على مستقبلِ الدولة السورية. لأن طهران تخشى من احتمالِ حصولِ مقايضاتٍ أميركية - روسية لإيجاد تسوية في سوريا تكون على حساب نفوذها في سوريا والمنطقة.
بتاريخ 28 أبريل 2021 وفي شريط صوتي مُسرب، انتقدَ وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، سيطرة "الحرس الثوري" على السياسة الخارجية للبلاد، وإدخالها في الحرب الأهلية السورية بأمر من روسيا. ويأتي تسريب الشريط في الوقت الذي تستعدُّ فيه إيران لإجراء انتخابات رئاسية وتصل فيه صراعات السلطة الداخلية إلى آفاق جديدة.
ومن خلال تصريح ظريف بشكل لا لبس فيه بأن "فيلق القدس" وموسكو يرتبطان بعلاقة وثيقة، وأشار أيضاً إلى أن هذه العلاقة غير متكافئة. ووفقاً لما قاله، أرغم فلاديمير بوتين إيران على إرسال قوات برية إلى سوريا: "فكانت رحلة سليماني إلى روسيا عام 2015 بناء على إرادة موسكو وليس (إرادتنا). كانت إرادة روسيا تهدف إلى تدمير إنجاز وزارة الخارجية. هذا هو سبب دعوتها لسليماني". ويتناقض هذا التوصيف تناقضًا حادًا مع الحجج المتكررة بأن سليماني جرّ بوتين إلى الصراع السوري. وعلى حد تعبير ظريف، "دخل بوتين الحرب عن طريق القوات الجوية، لكنه جرّ القوات البرية الإيرانية إلى الحرب أيضًا. ولم يكن لدينا قوات برية في سوريا في ذلك الوقت".
روسيا وتعويم النظام السوري
تحاول روسيا تعويم النظام السوري خاصة بعد أن نجحت في دعمه للسيطرة على مساحة واسعة من الأراضي، لكنها فشلت في إنضاج حلول سياسية لمستقبل النظام وإجراء مصالحة فعلية تمكن من فتح أبواب الدول العربية أمام بشار الأسد. لكن الانزعاج الروسي بات واضحًا من نظام الأسد، بعد إفشال دمشق لمشروع المصالحة العربية وإفشال العلاقات مع أنقرة، والتفاهمات التي كانت روسيا تحاول إرساءها بين البلدين وخاصة أن روسيا فتحت مفاوضات أستانا على مدى إحدى وعشرين جولة. روسيا أبعدت العرب عن الواجهة للتفرد بإنتاج حلول سياسية تناسبها بالدرجة الأولى وتناسب إيران ثانيا.
موسكو ترى أن العناد المتّبع من سلطة دمشق في الوقوف أمام شروطها ناتج عن الضغط الإيراني على النظام الذي ينصاع تلقائيا لشروط نظام الملالي على حساب روسيا ودورها. فالشروط التي تصرّ عليها دمشق لتطبيع العلاقات مع أنقرة غير جديّة ويجب تقديم التنازلات المتوازية كي تبدأ علاقات جديّة تُعَّوم النظام مجددا على حساب الثورة السورية. أما لجهة النظام العربي والمصالحة معه فتعي روسيا أن إيران كانت وراء إفشال تعهدات نظام الأسد في منع تصدير الكبتاغون، والسير بخطوة من النظام مقابل خطوتين من العرب على حساب دماء الشعب، لأن تعويم الأسد كان يخطط ليكون جزءا من نتيجة استراتيجية كبرى وقد رسمت خريطة المنطقة العربية وخاصة بعد التفاهم السعودي - الإيراني.
لكن الأسد لم يستطع أن يحصد ما بين القمتين إلا حصادًا كارثيًا ومن المتوقع أن يكون مريحًا بعد مؤتمر المنامة حيث ستكون حرب غزة وضعت أوزارها وسيتم دفع فواتيرها.
الصراع الحالي بينهما على سوريا
يمكن القول إن الصراع الإيراني الروسي على القرار السوري بات يحصد الخيبات لنظام الأسد في ظل قمتي (الرياض والمنامة) لجهة الاختلاف والمساعدة في الخروج من الحصار الغربي المفروض على النظام والعجز الفعلي لروسيا وإيران أمام هذا الحصار.
فإذا كانت إيران تريد السير في مشروعها في سوريا القاضي ببقاء النظام السوري الذي ينفذ استراتيجيتها من خلال السيطرة على القرار وإبقاء سوريا مسرح مواجهة مع العرب من جهة ومع إسرائيل والمجتمع الدولي من جهة أُخرى، فإننا أمام صراع واضح نراه بين الروس والإيرانيين المسيطرين في الجنوب، ما يهدد الأردن الخاصرة الضعيفة في دول الاعتدال العربي لاختراقه بالمخدرات ونقلها إلى الخليج العربي، في محاولة لنقل المواجهة العسكرية أيضا وتهديد إسرائيل من ناحية التهديد بإسقاط الأردن عسكريا لمناصرة الضفة الغربية واستخدام الجولان للضغط على تل أبيب، واستخدام ذلك كأوراق للتفاوض مع واشنطن.
بينما ينظر الروس إلى أمن المنطقة الجنوبية على أنها أساس لضمان استمرارية الهدوء في الجنوب ومنع إثارة الفوضى في الأردن ومنع تصدير المخدرات نحو الخليج كي تبقى سوريا على علاقة جيدة مع هذه الدول التي قد تشكل لها ثقلا بظل الضغط الغربي والأميركي على النظام. وأيضا روسيا لا تريد خروج الجنوب من يد النظام وخاصة بعد خروج مدينة السويداء نهائيًا عن سيطرة الأسد، حيث باتت الولايات المتحدة تفكر بإقامة منطقة عازلة عن النظام من (البوكمال حتى درعا والقنيطرة جنوبا مرورا بالصحراء والسويداء).
التطورات الأخيرة في المنطقة ..
لكن الحدث الأبرز في منطقتنا هو طوفان الأقصى حيث لم يستفد منه أحد وتحديدًا (إيران وروسيا) إنما كانت هناك محاولة خجولة للنظام السوري للنأي بالنفس عن مجرى الأحداث التي لا تفرق بين جنوده والميليشيات الإيرانية، لكون سوريا إحدى الساحات الستة ضمن مقولة وحدة الساحات التي تديرها إيران في ضغطها على الولايات المتحدة.
فهل يمكن للنظام إبعاد أراضيه في الجولان عن المواجهة بمساعدة روسية؟ خاصة في ظل التهديد "بطوفان إيراني" في المستقبل القريب وفق طهران، لأن الأراضي السورية باتت تشكل العمق الاستراتيجي لحزب الله الذي يعتبر رأس حربة بالمواجهة الإيرانية في المنطقة، إن حزب الله بات موضوع التفاوض على أسس الحلول المقبلة للمنطقة، وما جرى في الضربة الدموية في حلب في منطقة السفيرة بتاريخ 29 مارس والتي كانت رسالة واضحة للنظام السوري وروسيا بأن إسرائيل جاهزة للمواجهة، ووفقا لهذا التوجه لن يستطيع الأسد ونظامه المناورة واللعب على التناقضات بين الأصدقاء والخصوم.
أما في ما يتعلق بمستقبل العلاقات بين إيران وروسيا ونظرتهم لمستقبل سوريا فإنه مرهون بتحول البيئة الداخلية والخارجية، ومن خلال متابعة العلاقات بين البلدين على مدار العقدين الماضيين يلاحظ أن موسكو تتعامل مع إيران وفقًا لسياسة فصل القضايا. وخاصة أن أي استراتيجية جديدة في المنطقة العربية لا بد من طرح مسألة الاحتلال والنفوذ الإيراني في الدول العربية وسوريا خاصة، في أي بازار سياسي تفاوضي. لأن الإيراني ليس صاحب سيادة لكي يتصرف كما يريد وفي هذا الوقت يمكن الضغط على إيران. وبالرغم من العلاقات الكبيرة بين إيران وروسيا، والتعاون العسكري بين البلدين في سوريا الممتد لأكثر من عقد من الزمان، والزيارات المكوكية المتبادلة بين كبار مسؤولي البلدين، وعزمهم فتح صفحة جديدة للعلاقات الثنائية عبر التوقيع قريبا على معاهدة التعاون الإستراتيجي الطويل الأمد فإن "الخلاف" دبَّ مؤخرًا بين البلدَين فبات العنوان الأبرز للمرحلة الحالية وسط تصعيد دبلوماسي إيراني تجاه موسكو.