حين دعا «الأستاذ» تلاميذه، للتشاور في ما ينبغي عليهم فعله إثر موت حافظ الأسد، استنتج أنه وقع في «خير» أعماله. فها هم الشباب والشابات، الذين حرّضهم طويلاً على الاستقلالية والتفكير الحر، يميلون إلى رفض التوجيهات التي وردت من الأوقاف ببث القرآن الكريم من إذاعة الجامع، وبذهاب وفد من المعهد الشرعي الناشط فيه إلى شعبة الحزب في داريا معزّياً، وأخيراً إلى ضرورة قيام خطيب يوم الجمعة، وهو الأستاذ نفسه، بالترحّم طبعاً على الراحل وذكر مناقبه، والترحيب بخلَفه والاستبشار بعهده القادم.
لم يكتفِ بعض الطلاب بالدعوة إلى رفض هذه الإجراءات كلها، معتبرين ذلك شأناً بدهياً، بل قالوا إن هذه فرصة لتعبّر فيها هذه الجماعة، غير المتمايزة، عن أفكارها في المعارضة اللاعنفية.
في حقيقة الأمر لم يكن موقف الأستاذ مختلفاً عن هذا. لكنه كان عائداً، منذ أشهر، من مدة سنتين مُنِع فيهما عن الخطابة بعد أن تحدث عن تراجع الزراعة في مدينته داريا، وفي الغوطة الغربية لدمشق، ووصولها إلى حد الجفاف، بسبب فساد مسؤوليها واستعلائهم وتقصيرهم في تأمين المقومات الأساسية لعمل زراعي ناجح. ومن جهة أخرى كان الشيخ، الذي بلغ منتصف العقد السادس، قد خبِر أطرافاً من عالَمي الدين والدنيا في مهمته الشرعية وأعماله الخاصة التي جعلته ميسوراً، وعرف من الوجهاء والعلماء والمسؤولين ما يكفي. وكان كل ذلك ينبئه أن الموقف الصلب في مناسبة مثل موت الأسد الأب وتنصيب ابنه لن يمر مرور الكرام.
الغاية السليمة لا تتحقق إلا بوسيلة سليمة، فالحق لا ينتصر بالباطل والكرامة لا تُحفَظ بالنفاق
لكنه كان صادقاً في استشارة المجموعة وفي النزول عند ترجيحها، كما كان صادقاً عندما أسس المعهد الديني الذي شكّلها، في جامع أنس بن مالك في وسط داريا، عام 1988، وكان مستقيماً معها منذ تجمّعت عنده، أطفالاً ويافعين في البداية، فبث فيهم الحرية وشجّعهم على القراءة المنفتحة وعلى تنمية ملكة النقد تجاه كل الأشخاص والأفكار بدءاً به هو نفسه، معلّمهم الذي تلقوا على يديه التجويد والفقه والحديث وحفظوا القرآن، وسمعوا منه، ذات يوم من خريف عام 1997، إحدى أميز خطبه. تلك التي تحدث فيها عن عشرة مبادئ ومقومات على الداعية أن يتحلى بها ليبلغ المنهج الرشيد. وهي عدم الجبن والتخاذل أمام كلمة الحق، وعدم السرية في الدعوة، وعدم اللجوء إلى العنف، والصبر على الأذى، ومقابلة الإساءة بالإحسان، واحترام الآخر وقبوله، وعدم التحزب والتعصب، والتحقق من كل قول وفعل والتخلص من الببغائية، والتجرد من لغة الأنا والكبر ومن «الآبائية» التي تحمل على تقديس السلف واتباعهم دون هدى، وأن الغاية السليمة لا تتحقق إلا بوسيلة سليمة، فالحق لا ينتصر بالباطل والكرامة لا تُحفَظ بالنفاق.
سارت الأمور كما قرر المجتمعون. وتوالت الاستدعاءات الأمنية للأستاذ السقا، فهو المسؤول رسمياً عن الجامع خطيباً وإماماً، وهو مدير المعهد. وانتهت بسجنه لمدة شهرين ومنعه نهائياً من الخطابة والتدريس المسجدي. لكن الطلاب، الذين لم يكونوا تلاميذ مباشرين فقط، بل مدرّسين للحلقات الأصغر؛ حافظوا على نشاط المعهد كما هو. وبعد اعتقال أستاذهم بأسبوعين دعوا الشيخ جودت سعيد، الداعية اللاعنفي الإسلامي الشهير، فألقى في الجامع محاضرة استمع إليها قسم الذكور وقسم الإناث معاً. وهكذا بدا أن على مجموعة جامع أنس أن تواجه على جبهات ثلاث؛ فالمشايخ التقليديون لا يرتاحون إلى أفكار سعيد ويستهجنون الاختلاط الذي حصل، وعدد لا بأس به من الناس وراءهم في رفض التجديد الذي أظهرته المجموعة عملياً ودوّنته نظرياً في بعض الكتيبات، وأخيراً فإن أجهزة الأمن، المتشككة بليدة الذهن، لم تستطع أن تُدرِجهم في خانة مفهومة لديها فقررت أنهم مشروع تنظيم سلفي. ولذلك لم ينتهِ عام 2000 إلا وكانت وزارة الأوقاف قد عزلت الأستاذ من إدارة المعهد وأبلغت طلابه بضرورة التوقف عن التدريس.
خلال السنتين اللاحقتين أخذت العلاقة بين «مجموعة داريا» وبين أجهزة الأمن طابع الكر والفر. مُنع الأستاذ من درسه يوم الأحد فصاروا يحضرونه في بيته. أُخرِجوا من الجامع فافتتحوا مكتبة «سبل السلام» للإعارة المجانية والالتقاء والمطالعة والخدمات الجامعية. وسرعان ما أغلقت البلدية المكتبة بالشمع الأحمر وصادرت محتوياتها وواظب الأمن السياسي على استدعاء القائمين عليها، فوجد أمامه شباناً جدداً لا يخفون ما يعتقدون به. وحين يمل من دعوتهم يبادرون هم إلى المجيء مطالبين بالكتب المحجوزة! كانوا نمطاً غريباً من مثيري المتاعب؛ ينظّمون حملة أسبوعية لتنظيف أحد الشوارع بأنفسهم، ويصممون ملصقات ضد التدخين، ويجرون استطلاع رأي عن الرشوة، ويقرؤون، أو يدرسون في مقرراتهم الجامعية، خلال ساعات الانتظار الطويلة لدى المساعد!
لم تمض سوى أيام قليلة حتى وصلت الاستدعاءات الجدية هذه المرة، وأدت إلى الاعتقال فور وصول المجموعة إلى فرع المنطقة، قبل أي سؤال أو جواب
قبل دخول سنة 2003 كان الأمن السياسي قد ضجر من الملف، وانفتحت عليه شهية «فرع المنطقة» في شعبة المخابرات العسكرية. وفي الوقت نفسه كان الشبان يتململون من أنهم لم يسيروا بالسرعة المأمولة ولم ينجزوا ما يكفي. وجاء الغزو الأميركي للعراق ليعدّ الحلبة لصدام كان الأقسى. فمع بداية الحرب وتطورها السريع، وسقوط بغداد المفاجئ، انتشر الاحتقان بين الناس وزادت الحماسة للقتال في البلد المجاور وأخذت قوافل المتطوعين تنطلق في باصات معلنة. من جهتهم رأى شبان داريا أن هذا ليس سبيل التغيير، بل العمل الطويل في إصلاح النفس والمجتمع. ولذلك نظّموا حملة بعنوان «حتى يغيّروا ما بأنفسهم»، شملت يوماً لمكافحة الرشوة ويوماً للنظافة ويوماً لمحاربة التدخين ومقاطعة الأميركي منه على وجه الخصوص.. ومسيرة غير مرخصة تندد بالاحتلال الأميركي، بدأت بنحو 150 شخصاً وانتهت بعد أن انضم إليها العشرات، ومنهم بعض وجهاء البلد. ولم تمض سوى أيام قليلة حتى وصلت الاستدعاءات الجدية هذه المرة، وأدت إلى الاعتقال فور وصول المجموعة إلى فرع المنطقة، قبل أي سؤال أو جواب.
خلال أشهر التحقيق أُفرِج عن بعضهم واستدعي آخرون. وفي الأول من آب دخل «يابسو الرأس»، كما وصفهم ضباط الأمن، سجن صيدنايا. الأستاذ وعشرة من طلابه سيقضون مدداً متفاوتة، منها أشهر في المنفردات المروعة كعقوبة لاثنين منهم سيصطدمان مع رئيس المحكمة الميدانية اللواء محمد صبحي أبو الشامات ومدعيها العام العقيد محمد كنجو حسن. هما هيثم الحموي ويحيى شربجي، وهو الاسم الذي سيشتهر لاحقاً كأحد رموز الحراك اللاعنفي في الثورة السورية، مثله مثل الكثيرين من «مجموعة داريا» والمتأثرين بها. رغم أن سلميته لم تمنع الأمن من اعتقاله، ثم تصفيته داخل السجن في مطلع 2013.
أما الأستاذ، فبعد مراجعات للفروع المختلفة لم تتوقف لأربعة أشهر منذ اندلاع الثورة؛ فقد اعتقل أيضاً في عملية مداهمة جرت في 15 تموز 2011. وفي الشهر الماضي مرت الذكرى العاشرة على إخفائه قسرياً دون معلومات.
ألّف الشيخ عبد الأكرم السقا عدداً من الرسائل والكتب، لعل أبرزها «مؤمن آل فرعون» الذي يشرح عنوانه الفرعي رسالته: دراسة موضوعية لقصة مؤمن آل فرعون الذي قال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟!