منذ سنوات طويلة، تواجه سوريا تحديات مناخية قاسية ومتزايدة، ألقت بظلال كارثية على الاحتياجات الغذائية والأمن الغذائي في البلاد، تفاقمت بشكل أكبر خلال السنوات الأخيرة من جراء شح الأمطار وموجات الجفاف المتكررة، ما تسبب بانخفاض مستويات المياه الجوفية والأحواض المائية، ونقص متزايد في الموارد المائية المتاحة للزراعة والاستخدام البشري.
ترافق كل ذلك مع زيادة تطرّف درجات الحرارة وتقلبات الطقس، وتغيرات جذرية في أنماط تساقط الأمطار، فضلاً عن فترات طويلة من الجفاف، ما جعل من الصعب التنبؤ بالمواسم الزراعية وتخطيطها، بالإضافة إلى تأثير ذلك على المساحات الزراعية وجودة التربة وقابليتها للزراعة، وبالتالي ضعف الإنتاج والمحاصيل الزراعية.
ووفق العديد من الدراسات العلمية، فإن موجات الجفاف التي تواجهها سوريا ما هي إلا جزء من تداعيات التغير المناخي المستمر والمتفاقم، ففي حين كانت احتمالات حدوث الجفاف في سوريا تقتصر في السابق على مرة واحدة كل نحو 250 عاماً، ارتفعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتصبح مرة كل 10 سنوات، أو أقل، خاصة مع ارتفاع معدل درجات الحرارة في سوريا لأكثر من 1.14 درجة مئوية.
كانت احتمالات حدوث الجفاف في سوريا تقتصر في السابق على مرة واحدة كل نحو 250 عاماً، ارتفعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة لتصبح مرة كل 10 سنوات أو أقل.
وفي قلب أزمة التغير المناخي، تتجلى تحديات هائلة تواجه الزراعة والأمن الغذائي في سوريا، فالزراعة تعتبر العمود الفقري لتلبية احتياجات السكان من الغذاء، لكن مع الظروف الآنفة، أصبحت قلة الإنتاج هي السمة البارزة التي تعصف بالقطاع الزراعي السوري، وبشكل خاص مع صعوبة وصول المزارعين إلى موارد مائية كافية لري المحاصيل، بالإضافة إلى انتشار الآفات والأمراض الزراعية، ما أدى إلى تفاقم مشكلة الجوع والفقر في المجتمعات السورية، حيث تشير البيانات الأممية إلى أن نحو 80 % من السكان يواجهون حاجات ملحة لإمدادات الغذاء.
في هذا التقرير، نحاول قراءة تأثير الجفاف والتغير المناخي على القطاع الزراعي وإنتاج المحاصيل الرئيسية في شمالي سوريا، والنظر في النظم الزراعية المستدامة، وطرق تطوير مصادر جديدة للمياه، وتعزيز البنية التحتية للري والاستصلاح في المناطق الزراعية، بالإضافة إلى مقاربة التقنيات الزراعية المبتكرة، والتدابير الاحترازية والسياسيات الفعالة والممكنة في السياق السوري للتكيف مع التحديات المناخية وتنويع المحاصيل وزيادة مقاومتها للجفاف.
أزمات متداخلة وأصناف دخيلة
عندما يتعلق الأمر بالزراعة وإنتاج المحاصيل في سوريا، فإن الجفاف والتغير المناخي ليست مجرد تحديات، بل هي أزمات متداخلة تهدد بشكل جدي الأمن الغذائي وسُبل العيش والاستقرار الاقتصادي بشكل عام، فالآثار السلبية تتزايد سنة بعد أخرى، خاصة مع تضاءل إمدادات المياه وتدهور جودة التربة الصالحة للزراعة، ما يقلل من إمكانية زراعة المحاصيل الرئيسية والاستراتيجية، مثل القمح والشعير والحبوب وغيرها.
وانعكس شح الأمطار وارتفاع درجات الحرارة سلباً على إنتاج المحاصيل واقتصاد البلاد بأسرها، حيث نقص التوافر المائي، وأصبح الري أكثر صعوبة وكلفة، وتعرض إنتاج المحاصيل الزراعية وجودتها للخطر.
ووفق وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، فإن الجفاف ألحق أضراراً بالغة بالأسر والمجتمعات المحلية والاقتصاد السوري ككل، وأثر بشكل مباشر على المحاصيل الزراعية، والنظم البيئية في شمالي سوريا، وأدى إلى انخفاض كميات المياه الجوفية، وتقلص المسطحات المائية في الأنهار والبحيرات والسدود، حيث وصل فقد المياه في العام 2022 إلى نحو 2.2 مليار متر مكعب.
وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة: انخفضت كميات المياه الجوفية وتقلصت المسطحات المائية ووصل فقد المياه في العام 2022 إلى نحو 2.2 مليار متر مكعب
العمل في القطاع الزراعي لم يعد محفزاً
وفي حديث خاص مع موقع "تلفزيون سوريا"، قال وزير الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، هايل أحمد خليف، إنه "منذ ثلاث سنوات لم يعد العمل ضمن القطاع الزراعي محفزاً في سوريا، وخاصة الزراعات الاستراتيجية كالقمح والشعير والقطن والذرة الصفراء وغيرها".
وأضاف أن ذلك جاء "نتيجة لموجة الجفاف، لا سيما في صيف 2021، الذي كان الأكثر سخونة في العالم، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل انهيار المخزون الاحتياطي من المياه الجوفية، مما أثر بشكل مباشر على إنتاجية الأراضي وتربية المواشي"، مشيرة إلى أن المزارعين والمربين نزحوا من القرى إلى المدن أو هاجروا خارج البلاد، أو انتقلوا لمهن أخرى تلائم الظروف المعيشية الجديدة.
وذكر أنه "خلال موجة الجفاف الأخيرة، التي تعتبر الأسوأ خلال القرون الأخيرة، تحول قسم كبير من الأراضي الزراعية في سوريا لأراضٍ جافة، بسبب انحباس الأمطار والاحتباس الحراري، ما أثّر بشكل سلبي على الغطاء النباتي من جهة، وتراجع المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، خصوصاً القمح والشعير، التي تعتمد بشكل أساسي على الأمطار، من جهة أخرى".
وأشار وزير الزراعة إلى أن "نسبة كبيرة من المزارعين يعتمدون على الزراعات البعلية (التي تعتمد على الأمطار فقط)، فيما أدت فترة الجفاف في السنوات الماضية الى إخراج العديد من الأراضي المزروعة بالمحاصيل البعلية من الإنتاج، وتعميق مأساة المزارعين الذين يعتمدون على تلك الزراعات غير المكلفة".
تحول قسم كبير من الأراضي الزراعية في سوريا لأراضٍ جافة بسبب انحباس الأمطار والاحتباس الحراري، ما أثّر بشكل سلبي على الغطاء النباتي وتراجع المحاصيل الزراعية الاستراتيجية
تدنٍ متواتر في إنتاج المحاصيل
من جانبه، يرى المهندس الزراعي محمد عنيزان، وهو رئيس وحدة إرشادية سابق في سهل الغاب، ومدير جمعية "أصدقاء البيئة"، أنه على الرغم من تحسن الهطولات المطرية خلال هذا العام عن السنوات السابقة، إلا أن هناك تدنياً متواتراً في إنتاج المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، والشمال السوري بشكل خاص، تأثر بموجة جفاف كبيرة، أدت إلى انخفاض إنتاجية المحاصيل الزراعية بشكل واضح.
وقال المهندس عنيزان، في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا، إن هذه الظروف ترافقت مع إدخال أصناف زراعية جديدة إلى شمالي سوريا، بعضها غير ملائم للظروف البيئية والمناخية في المنطقة، مثل أنواع معينة من بذار القمح ومحاصيل أخرى لها احتياجات مائية عالية، ما أدى إلى فشل زراعتها وضعف إنتاجها"، مشيراً إلى أنه لم يكن هناك وعي بإدخال هذه الأصناف من دون تجارب إلى القطاع الزراعي في الشمال السوري.
النظم الزراعية المستدامة ضرورة وليست خياراً
في مواجهة ذلك، تبرز الحاجة الملحة إلى أهمية اعتماد أنظمة زراعية مستدامة، حيث تتطلب البيئة القاسية والموارد المائية المحدودة استراتيجيات مبتكرة للحفاظ على إنتاجية زراعية مستدامة، وإعادة تفكير شاملة في الطرق التقليدية للزراعة، واعتماد ممارسات مبتكرة وفعالة لتحقيق إنتاجية دون التأثير السلبي على البيئة.
ويمكن القول إن الاعتماد على النظم الزراعية المستدامة في سوريا ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة ملحة وعاجلة، للحفاظ على إنتاجية الأراضي الزراعية، وضمان استدامة الزراعة في ظل ظروف بيئية ومناخية قاسية وموارد مائية محدودة.
وفي شمالي سوريا على وجه الخصوص خاص، تحتاج المجتمعات الريفية إلى تعزيز الوعي بأهمية الزراعة المستدامة، وتوفير الدعم والتمويل للمزارعين، الصغار منهم خاصة، لتطبيق ممارسات الزراعة الحديثة والمستدامة، بما في ذلك استخدام تقنيات الري الحديثة والذكية، وتشجيع التنوع البيولوجي واستخدام المبيدات الطبيعية والمواد العضوية، وإدارة النفايات الزراعية بشكل فعال، ما يعني هدراً أقل وإنتاجاً أكثر.
فعلى سبيل المثال، تلقّى مئات المزارعين في منطقة سهل الروج غربي إدلب، والتي تعتبر السلة الغذائية للمنطقة، خسائر مادية كبيرة، بعد تعرض آلاف الدونمات المزروعة بمحاصيل الكمون وحبة البركة واليانسون والعصفر للتلف، وذلك نتيجة إصابة المزروعات بالفطريات، التي أدت إلى تعفن وشلل في جذور أو ساق النباتات، فاتجهوا إلى زراعة أنواع أخرى من الحبوب والبقوليات والمحاصيل العطرية، لأنها محاصيل تدخل في سجل الصادرات إلى تركيا وغيرها من البلدان.
ولاحظ موقع "تلفزيون سوريا" في لقاءاته مع المزارعين غياب المعلومات المذكوره أعلاه عن المزارعين وجهلهم بطبيعة الأرض وبأنها غير ملائمة لمحاصيل معينة كالكمون، ويعتقد المزارعون أن أسباب الفشل مرتبطة بتوقيت زراعة الكمون، أو عدم وضع مبيدات فطرية، دون أن يوعيهم أحد على الأسباب الحقيقية.
ويعتبر العديد من المزارعين والمهندسين الزراعيين أن غياب الدعم الحكومي يدخل المزارعين في دوامات غير منتهية من الخسائر، فالحكومة التي شجعتهم على زراعة القمح لتحقيق الاكتفاء الذاتي انقلبت عليهم عندما حصلت على قمح مستورد بأسعار أرخص، وفضلت القمح المستورد على المحصول المحلي الذي انخفضت أسعاره بشكل دفع المزارعين للإقلاع عن زراعته.
كما أن غلاء أسعار الأدوية الزراعية والمبيدات الفطرية والحشرية وغياب عمليات رش المبيدات الجماعية الحكومية يثقل كاهل المزارعين ويدفعهم نحو محاصيل غير استراتيجية وذلك بسبب مردودها المالي الجيد، وهو ما يمكن أن يهدد الأمن الغذائي في المنطقة مستقبلاً.
أنظمة الزراعة المستدامة في مواجهة الجفاف
ويرى المهندسون الزراعيون في وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، الذين تحدث إليهم موقع "تلفزيون سوريا" أن الأنظمة الزراعية المستدامة لها دور كبير في تحديات الجفاف، وذلك عبر استخدام الممارسات الزراعية الجيدة، التي من شأنها تمكين المجتمعات المحلية في الحفاظ على إنتاج الغذاء مستقبلاً، مضيفاً أن ذلك يكون باستخدام الطرق الحديثة في الزراعة من خلال إقامة محطات الإنذار المبكر، والعناية بالتربة ومراقبتها، والتقليل من التلوث.
ويؤكد المهندسون الزراعيون على ضرورة إقامة محطات معالجة المياه الناتجة عن الصرف الصحي واستخدامها في الري، والتقليل من استخدام الأسمدة والمبيدات الكيميائية، وإدخال الزراعات البديلة التي تتحمل الجفاف، واستخدام الطاقة البديلة والنظيفة في العمليات الزراعية، ما يسهم في التقليل من انبعاث الغازات وتقليل الاحتباس الحراري الذي يزيد الجفاف.
وعن طرق الري الحديث، ذكر المهندس الزراعي محمد عنيزان أن طرق الري الحديث توفر بين 50 إلى 60 % من كميات المياه المستخدمة في الزراعة، وبشكل خاص في المحاصيل الصيفية، فضلاً عن توفيرها للجهد والوقت والكلفة.
وأوضح أن الكلفة الإنشائية لشبكات الري بالتنقيط، على سبيل المثال، قد تكون مرتفعة، لكن عمر هذه الشبكات يصل إلى نحو 10 سنوات، ما يعني أنها مستدامة وتنعكس إيجاباً على المزارعين، مؤكداً أن التوجه لأنظمة الزراعة الحديثة من شأنه أن يوفر كميات كبيرة من المياه.
ليست ذات جدوى
في مقابل ذلك، يرى كثير من الخبراء والمختصين أن ممارسة نظم الزراعة المستدامة وأساليب الري الحديثة خطوة إيجابية، إلا أنها وحدها ليست كافية للتصدي للتحديات البيئية الحالية في سوريا، فالحلول يجب أن تتضمن عدة جوانب متنوعة، بما في ذلك تحسين تقنيات الري التقليدية، وتعزيز التنوع الزراعي، ومحاربة الفساد، والاستثمار في البحث العلمي والتكنولوجيا لتطوير محاصيل مقاومة للجفاف ومتكيفة مع المتغيرات المناخية.
ويرى المهندس الزراعي والخبير في تغير المناخ عليوي الذرعي، في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا"، أن اتباع أساليب الري الحديث في مناطق شمالي سوريا، مثل الري بالتنقيط والرذاذ وغيرها، ليست ذات جدوى، مشدداً على أن "الحلول يجب أن تكون متكاملة".
المهندس الزراعي عليوي الذرعي: اتباع أساليب الري الحديث في مناطق شمالي سوريا، مثل الري بالتنقيط والرذاذ وغيرها، ليست ذات جدوى ... الحلول يجب أن تكون متكاملة
وأوضح أن ما يحتاجه القطاع الزراعي في الشمال السوري هو جملة من الإجراءات المتكاملة، مثل تشجيع المحميات الرعوية، واستخدام المناطق الزراعية لما هي صالحة له، ودعم المزارعين، ومراقبة تربية الماشية في المناطق الرعوية، وعدم استخدام الرعي الجائر.
وكمثال على ذلك، أشار المهندس الذرعي إلى أن المناطق المعرضة للجفاف ومعدل الهطول المطري فيها منخفض، وهي مناطق مصنفة على أنها بادية، يتم فيها زراعة محاصيل مثل القطن، وهو محصول يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، ويتم حفر آبار بشكل عشوائي، ما يؤدي إلى استنزاف المياه الجوفية.
وشدد على أن تحديات القطاع الزراعي في شمالي سوريا تتطلب استجابة شاملة ومتعددة الأوجه، تركز على توفير بنى تحتية وموارد مستدامة، وزيادة قدرة الزراعة على التكيف مع التغيرات المناخية المتزايدة.
لسنا أصحاب قرار في مياهنا
منذ العام 2020، شهدت سوريا مستويات قياسية منخفضة من هطول الأمطار، وتراجع حاد في تدفق المياه في الأنهار، ما جعل وصول الفلاحين والمزارعين إلى المياه أكثر صعوبة، وذلك يعني ضرورة البحث عن فرص لتطوير مصادر مياه جديدة أو تحسين استخدام المياه الزراعية في سوريا.
وحول ذلك، قال المهندس الزراعي محمد عنيزان إن توفير مصادر جديدة للمياه في سوريا "صعب جداً، فنحن لسنا أصحاب قرار في مياهنا"، مشيراً إلى أن "منبع نهر الفرات في تركيا، والتي تتحكم في تدفقه، كما أن نهر العاصي ينبع من لبنان وجزء منه يمر في الأراضي السورية، وأغلب سرير النهر موجود في مناطق سيطرة النظام السوري، ما يعني أنه لا فائدة حقيقية منه للقطاع الزراعي في الشمال السوري".
وعن واقع السدود في الشمال السوري، ذكر المهندس عنيزان أن سد البالعة، الواقع في سهل الروج غربي إدلب، طاقته التخزينية تصل إلى 14 مليون مترمكعب، لكنه يعمل بسعة مليون متر مكعب فقط، حيث لم يتم ملؤه بشكل كامل حتى الآن.
أما سد ميدانيكي، بمنطقة عفرين شمال غربي حلب، أضاف عنيزان أن سعته تبلغ 65 مليون متر مكعب، وفيه محطة فلترة للمياه تغذي مناطق اعزاز كمياه للشرب، ولكن لم يتم ملؤه حتى الآن، فضلاً عن تضرره من جراء الزلزال في شباط 2023، ما تسبب بأضرار للأراضي الزراعية في مناطق عفرين وباسوطة وصولاً إلى جندريس.
وأشار إلى أنه تم حبس مياه نهر عفرين، خلال العام الماضي، ولم تصل إلى المزارعين، كما أن مياه سد الغندورة لا تصل إلى المزارعين بسبب عدم فتحها في الأوقات المناسبة، حيث يتم إطلاق المياه الفائضة في الشتاء ما يسفر عن إغراق وغمر الأراضي، بينما لا يتم إطلاق المياه في فصل الصيف نهائياً.
كما تتأثر مناطق صوران ومارع الزراعية بشكل كبير بسبب سيطرة "قسد" على مجرى نهر قويق الذي يصب في سد تشرين، ولا تصل مياهه إلى المزارعين في هذه المناطق.
كيف يمكن الحصول على مصادر جديدة للمياه؟
وذكر الخبراء والمتخصصون، بما فيهم المسؤولون في وزارة الزراعة بالحكومة السورية المؤقتة، الذين تحدثنا إليهم مجموعة من الإجراءات التي يمكن للمزارعين اتباعها للحصول على مصادر جديدة للمياه واستخدامها في ري محاصيلهم، منها:
- تطوير أنظمة الري واستخدام طرق ري كفيلة بتوفير المياه، كالري الموضعي والري بالتنقيط والري الضبابي.
- استخدام طرق الري تحت السطحي، وهي شبكات مياه تحت سطح التربة، تعمل عن طريق الرشح، وهي تتناسب مع البيئة السورية وتربتها.
- تعزيز ثقافة تخزين المياه واستخدام الوسائل البسيطة مثل الحفر التخزينية، وسدود مصبات مياه الأمطار، التي تمنع انجراف الطبقة السطحية من التربة، وتسهم بتغذية حوامل المياه الجوفية.
- استخدام تقنيات حصاد مياه الأمطار، خاصة في المناطق المزروعة بالأشجار والمناطق الجبلية، من خلال استخدام الخطوط الكنتورية التي من شأنها حبس كميات كبيرة من المياه تستفيد منها الأشجار لفترات طويلة أثناء فترة الجفاف.
- التعامل مع كل منطقة بحسب الهطولات المطرية الموجودة، فيها وعدم استنزاف المياه الجوفية.
- الاهتمام بتناسب الهطول المطري مع كمية المياه المستخرجة من الآبار.
تأهيل البنية المائية التحتية ليس كافياً
على مدى عقود، كانت السمة البارزة في سوريا هي سوء إدارة الموارد المائية وضعف التخطيط الفعال والإدارة الشفافة، ما تسبب بتفاقم أزمة المياه، وعزز ذلك سنوات الصراع الطويلة والتدمير الممنهج للبنية التحتية في شمالي سوريا من قبل النظام السوري وروسيا، فضلاً عن استخدام المياه كأداة للضغط السياسي في كثير من الأحيان.
ويمكن اعتبار سوء الإدارة الحكومية على مدى سنوات والاستخدام غير المستدام للموارد، أبرز أسباب تراجع مستويات المياه وتدهور جودتها، ما يجعل من الأهمية بمكان تبني سياسات مستدامة وشفافة، والتعاون لتأهيل البنى التحتية اللازمة، وتعزيز القدرات الفنية لتحسين الموارد المائية وضمان توزيعها العادل والمستدام.
وقال المهندسون الزراعيون في وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة إن "إعادة تأهيل البنية التحتية لمصادر المياه في شمالي سوريا له دور كبير جداً في التخفيف من حدة الجفاف مستقبلاً"، مشيراً إلى أن العديد من السدود والبحيرات تحتاج إلى تأهيل وتتسع إلى كميات كبيرة من المياه التي يمكن استخدامها وقت الحاجة لري وسقاية المزروعات والمواشي.
وأشاروا إلى أن معظم السدود في مناطق شمالي سوريا، مثل سد زيزون وسد قسطون وسد وبحيرة الغندورة وسد وبحيرة ميدانكي، تتسع لكميات كبيرة من المياه يمكن تخزينها، لكنها تحتاج إلى صيانة وحماية من التلوث وهدر المياه وترشيد استخدام الموجودة حالياً فيها.
من جهته، ذكر المهندس الزراعي محمد عنيزان أن البنية التحتية لمشاريع الري غالباً ما تحتاج إلى تمويل حكومي، حيث إن تمويل المنظمات المانحة أو المجالس المحلية ليس كافياً، نظراً للحاجة إلى الإمكانيات المادية والمعدات الضخمة والتقنيات الحديثة، موضحاً أن استصلاح البنية التحتية المائية يحتاج إلى كلف تعجز عنها المنظمات أو السلطات المحلية.
وكمثال على ذلك، قال المهندس عنيزان إن سد البالعة يضم سبع مضخات رئيسية، تحتاج جميعها لإعادة تأهيل، وهذا أمر مكلف جداً، كما يحتاج جسم السد إلى فحص للتأكد من عدم وجود تسريب، كونه كان متوقفاً منذ سنوات، وهذا الأمر يحتاج إلى جهد وخبرات ومعدات حديثة وكلف كبيرة.
ما النظم الزراعية التي تحسن الإنتاج وتقاوم الجفاف؟
في سياق ذلك، تعتبر التقنيات الزراعية المبتكرة حلاً لتعزيز إنتاجية المحاصيل في ظل الظروف المناخية القاسية في سوريا، مع الأخذ بعين الاعتبار جملة من التدابير الاحترازية والسياسات والاستراتيجيات التي يجب اتخاذها لحماية المزارعين والمجتمعات الريفية من تأثيرات الجفاف وتنويع المحاصيل وزيادة مقاومتها للجفاف.
وتعليقاً على ذلك، قال المهندسون الزراعيون في وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة لموقع "تلفزيون سوريا" إن من أبرز النظم الزراعية التي تسهم في تحسين الإنتاج هي:
- تشجيع الزراعة الذكية مناخياً، والزراعة العضوية النظيفة والزراعة المائية.
- استخدام المياه والتربة بشكل أكثر كفاءة، وحمايتها من التلوث.
- استخدام الطاقة النظيفة في العمليات الزراعية، وهذا من شأنه تقليل التلوث والانحباس الحراري الذي يسهم في زيادة الجفاف.
- الحفاظ على التنوع البيولوجي، وتخفيف استخدام المبيدات والمعالجة الحيوية للآفات الزراعية.
- إعادة تدوير النفايات وبقايا الأغذية وبقايا المحاصيل الزراعية، وتحويلها إلى أسمدة عضوية.
- إنشاء محطات لمعالجة الصرف الصحي، وإعادة استخدامها في ري الأشجار الحراجية.
- استخدام التكنولوجيا في العمليات الزراعية، من خلال إنشاء محطات الإنذار المبكر والرصد والتنبؤ، واستخدام المكننة الزراعية وطرق الري الحديثة وطيران الدرون في عمليات خدمة المحصول.
وعن الإجراءات الاحترازية الواجب اتخاذها للوقاية من تأثيرات الجفاف، ذكر المختصون والخبراء والمهندسون الزراعيون الذين تحدثنا إليهم أن ذلك يتطلب بناء مجتمعات قادرة على التكيف مع التغير المناخي والجفاف ونقص المياه، من خلال التدخل المباشر وغير المباشر وتشجيع عملية حصاد المياه في المواسم المطرية، والحفاظ عليها من خلال بناء الخزانات وإعادة تأهيل المسطحات المائية والسدود، وإنشاء الخطوط الكنتورية في مناطق الجبال المزروعة بالأشجار، لاستغلال الموسم المطري والحفاظ على أكبر كمية ممكنة من المياه.
وأكد الخبراء الزراعيون على ضرورة زيادة البحث العلمي الزراعي، الذي من شأنه تعديل جينات الأصناف المزروعة لزيادة مقاومتها للجفاف بشكل أفضل، وإدخال زراعات جديدة متحملة للجفاف ونقص المياه، بما في ذلك أصناف الأشجار التي تتحمل الجفاف وتحمي التربة من الانجراف.
كما أكدوا على أهمية تفعيل البحث العلمي الخاص بإدارة الجفاف، وإقامة مراكز البحوث العلمية الزراعية ودعمها من الهيئات الحكومية وغير الحكومية والتي تُعنى بإنتاج الأصناف الجديدة، وخاصة أصناف القمح، كونه المحصول الرئيسي في المنطقة ويحقق الأمن الغذائي.
تعتبر التقنيات الزراعية المبتكرة حلاً لتعزيز إنتاجية المحاصيل في ظل الظروف المناخية القاسية في سوريا
كيف نحمي المزارعين والمجتمعات الريفية من الجفاف؟
وعن حماية المزارعين والمجتمعات الريفية من الجفاف، قال وزير الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة، في حديثه لموقع "تلفزيون سوريا"، إن يمكن تقليل التأثيرات السلبية للجفاف على المجتمعات الريفية وزيادة مقاومتها واستدامتها في مواجهة التحديات البيئية من خلال جملة من الإجراءات، منها:
- تقديم الدعم المالي والفني، الذي يمكّن المزارعين والمجتمعات الريفية من تطبيق التقنيات والممارسات المقاومة للجفاف، مثل الري بالتنقيط وتحسين التربة واستخدام المحاصيل المقاومة للجفاف.
- تحسين البنية التحتية للري، حيث يجب الاستثمار في تحديث وتطوير البنية التحتية للري، بما في ذلك بناء السدود والخزانات وتحسين نظم الري لزيادة توفر المياه.
- توفير التأمين الزراعي، والذي يمكّن من حماية المزارعين من خسائر المحاصيل الناجمة عن الجفاف والظروف الجوية القاسية الأخرى.
- توفير التعليم والتدريب حول ممارسات الزراعة المقاومة للجفاف وتقنيات إدارة المياه بكفاءة.
- تشجيع المجتمعات الريفية على التنويع في مصادر الدخل، مثل السياحة الريفية، أو تطوير الصناعات الصغيرة والمتوسطة، للحد من التأثيرات السلبية للجفاف على الدخل الريفي.
- التخطيط لتكيف المزارعين والمجتمعات الريفية مع تغير المناخ في السياسات الزراعية والتنموية، بما في ذلك توفير الموارد اللازمة للتكيف وتعزيز قدرات الاستجابة.
اختيار الصنف وحماية المزارعين
يؤكد المهندس الزراعي محمد عنيزان، في حديثه مع موقع "تلفزيون سوريا"، أن اختيار الأصناف المناسبة للبذور لزراعتها أمر بالغ الأهمية، لضمان الإنتاجية والاستدامة في هذا القطاع، على أن تكون متأقلمة مع الظروف الجوية والمناخية ومعدل هطول الأمطار في سوريا.
فعلى سبيل المثال، يشير المهندس عنيزان إلى أن الأقماح القاسية تستهلك كميات أقل من المياه مقارنة بالأقماح الطرية، مما يجعلها خياراً مثالياً في المناطق التي تعاني نقصاً في الموارد المائية.
وأشار إلى أهمية إدخال أصناف بذور معروفة المصدر ومتأقلمة مع البيئة السورية، مشدداً على أن استخدام الأصناف غير معروفة المصدر وغير المناسبة يمكن أن يؤدي إلى عدم تحقيق الجدوى الاقتصادية المرجوة للمزارعين، وعلى الرغم من أن هذه الأصناف الجديدة يمكن أن تحقق إنتاجية عالية في بعض الأماكن، إلا أنها قد لا تكون ملائمة اقتصادياً في سوريا، نظراً لاختلاف الظروف المناخية والبيئية.
ولفت إلى دور مؤسسة إكثار البذار في شمالي سوريا، والتي على الرغم من إمكانياتها المحدودة، إلا أنها تعمل على تنقية الأصناف وتطوير البذار المحسنة التي تتناسب مع البيئة السورية، وبشكل خاص الأصناف المحلية التي تتمتع بمقاومة أعلى للظروف البيئية والآفات الزراعية في سوريا، نتيجة تكيفها مع الظروف المحلية لسنوات طويلة.
ويختم المهندس عنيزان بالتأكيد على أهمية حماية المزارعين من دخول المواد الزراعية الملوثة أو غير المناسبة، مشيراً إلى أهمية دعم الزراعة المحلية وتشجيع استخدام الأصناف المحلية الملائمة، وهذه خطوات تسهم في تعزيز الاستدامة الزراعية وتحقيق الأمن الغذائي في سوريا.
تشجيع البحث العلمي وتعزيز المجتمعات المحلية
من جانبه، أشار المهندس الزراعي عليوي الذرعي، في حديثه لموقع "تلفزيون سوريا" إلى مجموعة من التقنيات والإجراءات التي يجب الاهتمام بها لتعزيز القطاع الزراعي ومقاومة الجفاف وتغير المناخ في مناطق شمالي سوريا، من أبرزها:
- دعم وتشجيع البحث العلمي في المشاريع الزراعية، وتعزيز استقلاليته دون تدخلات خارجية.
- عدم تعميم النتائج العلمية من منطقة إلى مناطق أخرى، بل دراسة خصوصيات كل منطقة على حدة.
- استخدام الخوارزميات العلمية البسيطة لاستنباط أصناف زراعية متنوعة ومقاومة للآفات والجفاف.
- استخدام أصناف زراعية متناسبة مع كل منطقة بناءً على التجارب المحلية.
- إنشاء مصانع ومعامل لمنتجات المحاصيل الزراعية، والتي توفر فرص عمل محلية.
- تأهيل البنى التحتية في المناطق الريفية والنائية، الاقتصادية والاجتماعية والخدماتية.
- تثبيت السكان المحليين في مناطقهم عبر توفير السبل المعيشية والخدمات الأساسية.
- خلق فرص عمل بديلة ومشاريع أهلية لتشجيع البقاء في الأراضي الريفية.