لم تكن تدرك السورية الأربعينية دلال (اسم مستعار لدواعٍ أمنية) المنحدرة من مدينة إدلب، ما ينتظرها في تركيا، بعد أن قدمت من الشمال السوري، لتلقي العلاج من مرض السرطان، فكانت أقصى أحلامها العودة وقد تماثلت للشفاء إلى سوريا التي تركت فيها ابنة وولداً، بعد أن فقدت زوجها وولدين آخرين في قصف النظام السوري على مدينة إدلب.
وكالسرطان الذي اجتاح جسدها خلسة وكشر عن أنيابه بعد أن تمكن منها، تسلل (س. ت) الثري ذو النفوذ إلى حياة دلال بقناع المنقذ، الذي أخفى تحته هواية تصيد ضحية سورية كل بضعة أشهر فيتزوجها بعقد شرعي ويتركها قبل تثبيت زواجها، ليعود ويبحث عن أخرى كما روت في حديثها إلى موقع تلفزيون سوريا.
تتعرض فئة من النساء السوريات في تركيا للتلاعب من قبل رجال يدخلون إلى حياتهن بصفة "أزواج" ويخفون نوايا السيطرة والهيمنة على المرأة أو التهرب من المسؤوليات تجاهها، من خلال إقناعها بالزواج بها بعقد شرعي مستغلين حاجتها للسند أو جهلها بقوانين البلد، لتجد المرأة نفسها إما زوجة راضخة أو مطلقة بلا حقوق.
ومع الاعتقاد السائد لدى البعض من الأتراك بأن السوريات يتزوجن دون تثبيت، تحوّلت هذه الممارسة في بعض الأحيان إلى عملية منظمة دورية تشترك فيها عدة أطراف أشبه بعصابة تتصيد ضحاياها من المستضعفات السوريات، وتمارس ضدهم مختلف أنواع التهديد والترهيب والعنف النفسي.
ثري ومسؤول يتصيدون السوريات
بعد دخولها إلى تركيا للعلاج من سرطان الثدي استمر شبح الفقدان يلاحق دلال مع استمرار غياب الأمن في سوريا، فسعت إلى نقل ولديها إلى تركيا بطريقة غير شرعية، لضمان بقائهما إلى جانبها حتى ولو كان بقاؤها معهما في تركيا مهدداً، بسبب عدم حيازتهم على وثائق تشرع وجودهم فيها.
وكانت هذه الأزمة هي إحدى الثغرات التي استغلها المواطن التركي (س.ت) للدخول إلى حياة دلال، حيث وعدها بتسوية وضعها ووضع أولادها في تركيا من خلال نفوذه كما يدّعي، بالإضافة إلى حديثه عن علاجها بأفضل المستشفيات ذات التجهيزات العالية، للتعامل مع مرضها كما قال لها.
وبذلك اجتمعت بوادر حسن النية التي أبداها (س.ت) مع ظروف دلال السيئة وحاجتها للدعم، لتلعب دوراً حاسماً في إتمام الزواج وفقاً للصيغة والآلية التي فرضها الزوج.
ورغم الوعود بحياة وردية اكتشفت دلال بعد عدة أشهر وجه زوجها الآخر، وعلمت بتعدد زيجاته هو وصديقه المسؤول في إحدى بلديات أنطاكيا من سيدات سوريات عن طريق سماسرة أحياناً يقبضون 10 آلاف ليرة تركية عن كل سيدة يصلونها بهما ويسهلون عملية تزويجها.
بحسب رواية دلال، فإن زوجها السابق في ظرف سنة واحدة تزوّج ثلاث سيدات سوريات زواجاً دينياً (غير مسجّل رسمياً) وطلّقهن, ويبحث حالياً عن الضحية الرابعة فهو بنظره "يستطيع الزواج بالفتاة التي يريد" كما كان يتبجح أمام دلال على حد قولها.
السكوت أو المافيا
لا يكتفي المستغلون بخداع الضحية والإيقاع بها بزواج مؤقت، بل غالباً ما تكون النهايات مقترنة مع الابتزاز والتهديد والعنف النفسي، فمع انتهاء زواجها حذّر (س.ت) دلال من إحداث أية جلبة حوله وهدّدها بمعارفه من "المافيا" الذين يستطيعون الوصول إليها بسهولة، كما تعرضت للتهديد من قبل إحدى الخطّابات السمسارات بعد أن طلبت دلال منها التوقف عن توريط السيدات السوريات في زيجات مماثلة، ليأتيها الرد بأنه يجب عليها التكتم على الموضوع، وإلا ستلاحَق من قبل بعض البلطجية الذين تعرفهم "الخطابة".
على خلاف (س.ت)، لم يهدد (ب.ك) طليقتيه بالعصابات أو البلطجية، بل هدّدها بالشرطة والسجن بعد أن اتهمها بسرقة مبالغ مالية متواضعة، كما وضحت طليقته الثانية لمى، لـ موقع تلفزيون سوريا.
تقول مديرة الحالة في "وقف التضامن مع النساء" غوزده شن، إنه بعد إجراء مقابلات معمقة مع النساء السوريات الطالبات للدعم والمشورة من مؤسستها، بسبب العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، تبيّن أن العديد منهن لم يكن لديهن زواج رسمي ولم يكنَّ على دراية بحقوقهن القانونية، كما أن عوائق اللغة وعدم معرفة آليات الشكوى كانت أسباباً لعيشهن العنف الجسدي والنفسي.
وتكمل غوزده في حديثها لـ موقع تلفزيون سوريا، أن النساء المتزوجات دينياً يتعرضن للترهيب من قبل أزواجهن حيث يستخدم الأزواج العنف النفسي بقولهم "لن يحدث شيء حتى لو اشتكيت"، وإذا كان أزواج المتزوجات دينياً أتراكاً فإنهم يهددون النساء بالترحيل ويخيفونهن بإصدار الأحكام، مثل "لن يصدقك أحد، لا تشتكي من أجل لا شيء".
ضحية من دار الاستشفاء
كحال دلال، لم تشفع لها ظروفها الإنسانية الصعبة ومرضها لدى (ب.ك)، فلمى المصابة بالتصلب اللويحي كانت كدلال قد دخلت إلى تركيا لتلقي العلاج من مرضها، وكان الأمل بالحصول على علاج أفضل وتأمين دوائها الغالي الثمن والوعود بتسوية وضعها في تركيا من العوامل المشجعة لقبولها بالزواج من (ب. ك)، بعد أن وصلتها به إحدى السيدات السوريات اللاتي يترددن إلى دار الاستشفاء الذي كانت تقيم فيه، وبذلك يشترك الصديقان (س.ت) و(ب.ك) باستغلال حاجة سيدات مريضات للدعم الطبي للإيقاع بهن والزواج منهن بشكل مؤقت.
خوف الضحية ونقل الملف لمفوضية اللاجئين
حصل موقع تلفزيون سوريا على معلومات عن الصديقين (س.ت) و(ب.ك) وتحقق من أن أحدهما يشغل منصباً في إحدى بلديات مدينة أنطاكيا، وطابق الموقع روايتي دلال ولمى وقاطع عدة معلومات حصل عليها من دلال تبين أنها حقيقية.
إلا أن خوف دلال من انتقام زوجها السابق وصديقه جعلها تتراجع عن اتخاذ أي إجراء لكشف ممارساتهما وملاحقتهما، ما أجبر موقع تلفزيون سوريا على التوقف عن التحقيق في القضية، حرصاً على سلامة دلال ولمى وتوقفاً عند رغبة دلال، ليكتفي بعرض شهادتها وتحويل قصتها إلى مكتب مرمرة الإقليمي لمفوضية اللاجئين، الذي عبر عن اهتمامه بالقضية ومتابعتها بالشكل الذي يضمن سلامة دلال.
وعلى الرغم من الاستغلال والابتزاز في الحالة المذكورة يقول المحامي والدكتور في القانون حسام الدين آغا أوغلو، مدير "مكتب إيشتر" للمحاماة، لـ موقع تلفزيون سوريا: "قانونياً يدخل الزواج الديني ضمن إطار العلاقات، ولا يترتب عليه مساءلات قانونية".
وبذلك تبقى قصة دلال عالقة بين فرضيتين، أولها بأنّ ما تعرضت له هي والسيدات الأخريات كان ممارسات فردية لشخصين أو أنهن كن ضحايا شبكة منظمة تستغل النساء السوريات تضم أشخاصاً مسؤولين وذوي نفوذ يستغلون مواقعهم لتسهيل ما يقومون به.
متزوجة في الواقع وعزباء في الهوية
لا ترتبط صفة "المُستغِل" بجنسية محددة أو فئة معينة، فحتى الأزواج السوريون قد يستغلون هيمنتهم الاقتصادية وعائق اللغة لخداع زوجاتهم ويستثمرون عدم دراية المرأة بالقوانين وقصر وعيها بحقوقها لإرضاخها وإخضاعها.
بتول (اسم مستعار) وقعت ضحية تلاعب من زوجها، عندما استغل جهلها للغة التركية ولم يعترف بها كزوجة في تركيا، فعلى الرغم من زواجها منذ ثمانية أعوام، ما تزال السورية الثلاثينية تحمل هوية حماية مؤقتة مع وصف "عزباء" في خانة الحالة الاجتماعية، وعند تساؤلها عن الموضوع أخبرها زوجها بأنه أمر طبيعي لحملة "بطاقة الحماية المؤقتة" (الكملك).
تبيّن فيما بعد أن زوجها الذي كان يرافقها في كل تحديث بيانات لم يبرز ورقة تثبيت زواجه المثبّت في سوريا مستغلاً عدم معرفة زوجته للغة التركية، لتكون بتول بذلك زوجة له شرعاً ولكن لا تربطها به أي صلة رسمياً.
الرضوخ أو الطرد من المنزل
تفاجأت بتول مؤخراً بزواج زوجها رسمياً من سيدة تركية، وعلى اعتبار أنها مجردة من جميع حقوقها الزوجية قانونياً، رضخت بتول لقرار زوجها بعد أن وضعها بين خيارين إما القبول بقراره والبقاء في منزلها لتربية أطفالها أو تجريدها من أطفالها وطردها من المنزل، دون الحصول على أدنى حقوق أو نفقة تكفل لها العيش بالحد الأدنى.
ذكرت غوزده شن، في حوارها أن النساء اللواتي طلبن الاستشارة من وقف التضامن مع النساء كن قد واجهن صعوبات فيما يتعلق بأطفالهن، وأنهن لم يعرفن حقوقهن القانونية فيما يتعلق بقضايا النفقة والحضانة عند انفصالهن، وأن أزواجهن هددوا بعدم دفع النفقة مقابل حضانة الأطفال.
وتضيف غوزده، أن كثيراً من النساء المتزوجات قانوناً لا يعرفن كيفية رفع دعوى الطلاق، وأن طول مدة القضايا وارتفاع كلفة المحامين يجعلهن لا يرفعن دعوى قضائية، فيعتقدن أن الطلاق الشفهي لإنهاء زواجهن كافٍ وصحيح.
وفي صدد تقييم حالة بتول قانونياً يقول المحامي حسام الدين، إن الزواج الثاني بموجب عقد قران ديني يعرض الرجل لمواجهة دعوى خيانة من قبل الزوجة الأولى، نظراً لمنع تعدد الزوجات في القانون التركي.
وأضاف: "ولكن بالنسبة لبتول فقد كانت هي الزوجة الأولى ولكن بزواج غير مثبت في تركيا بسبب تقديم الزوج بيانات منقوصة أو مزيفة للسلطات التركية ما يعرضه للجزاء أولاً والترحيل غالباً على اعتباره أجنبياً، لذلك بعد أن تثبت بتول بأنها متزوجة منه تستطيع التقدم بشكوى ضده والمطالبة بالتعويضات المالية المستحقة".
الجانب القانوني أكثر مجالات الدعم التي تحتاجها السوريات في تركيا
يعتبر الجانب القانوني من أكثر الجوانب التي يحتاج السوريون في تركيا إلى الحصول على الدعم فيها، فكان موقع تلفزيون سوريا قد أجرى استطلاع رأي في الشهر التاسع من عام 2022 لقياس رضا السوريات في تركيا عن الخدمات المقدمة من منظمات دعم المرأة، واستهدف الاستبيان النساء السوريات المقيمات في كل من محافظتي إسطنبول وغازي عنتاب اللتين تحتلان المرتبة الأولى والثانية بين المدن التركية من حيث تعداد السوريين.
شاركت في الاستبيان آنذاك 69 سيدة وطُلِب من المشاركات تحديد مجالات الدعم التي يحتجنها من منظمات دعم المرأة وسمح لهن بتحديد أكثر من إجابة، ووفقاً لنتائج الاستطلاع جاء الدعم القانوني في المرتبة الثانية كإحدى مجالات الدعم التي يحتجنها ولا يستطعن الوصول إليها بعد أن حددته أكثر من 37% من المشاركات وجاء "التمكين الاقتصادي والتأهيل المهني" في المرتبة الأولى.
الرفض سبيل النجاة
تؤدي الصورة النمطية المرسومة في أذهان المستغلين بأن "المرأة السورية تقبل الزواج الديني دون تثبيته رسمياً" إلى جعلها ضحية مرغوبة يعتقد بأنها سهلة الوصول، وهذا ما كان يفترضه خطيب ليلى التركي قبل أن تتصدى له وتكسر هذه الصورة في ذهنه، فبعد خطوبتها من شاب من مدينة غازي عنتاب وإقامة الأفراح وتجهيز المنزل تفاجأت بأنه يعتزم الزواج منها دون التثبيت في الدوائر الرسمية متذرعاً بجملة "أنتن السوريات تتزوجن دون تثبيت".
رفضت ليلى استكمال إجراءات الزواج قبل تثبيته قانونياً، وكانت على وشك فسخ الخطوبة قبل رضوخ خطيبها لرغبتها والبدء بالإجراءات الرسمية للتثبيت، وتعتقد ليلى بأن ما فعله خطيبها كان بهدف التهرب من أية التزامات تجاهها حال وقوع خلاف بينهما مستقبلاً.
حقوق إنسان
يعتبر استغلال النساء بزيجات مؤقتة وإرهابهن نفسياً وابتزازهن بسبب زواج غير مثبت رسمياً انتهاكاً لمبدأ عدم التمييز الذي تنص عليه المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما تتعارض هذه الممارسات مع المادة 16 من الإعلان نفسه التي تؤكد على حق الرجل والمرأة في التزوُّج وتأسيس أسرة، دون أيِّ قيد بسبب العِرق أو الجنسية أو الدِّين، وتساوي حقوقهما لدى التزوُّج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.
وللحد من ظاهرة استخدام الزواج الديني لاستغلال النساء وترهيبهن، ترى غوزده بأن تنفيذ البرامج التي تشمل النساء اللاتي يتعرضن لجميع أنواع التمييز نتيجة عدم المساواة بين الجنسين سيمكن المرأة من أن تصبح أقوى وتتعلم حقوقها.
وأن توفير التثقيف والتدريب في المناطق التي تعيش فيها النساء المحرومات يعتبران من العوامل التي تسرع التنشئة الاجتماعية للمرأة والوئام الاجتماعي.
لذلك تعطي مؤسستهم الأولوية للنساء المتضررات من جميع أنواع الكوارث مثل الدمار البيئي الناجم عن الأعمال الطبيعية والبشرية، والحروب، واللواتي يتعرضن للتمييز المتعدد العوامل كما تقدم المؤسسة خدمات الاستشارة القانونية والنفسية والاجتماعية لجميع النساء اللاتي تعرضن للعنف أو المعرضات لخطر العنف دون تمييز وتربطهن بالموارد التي يحتجنها وتقدم الدعم اللازم لتمكينهن من الوصول إلى حقوقهن.
تبقى الكلمة الفصل للحد من ظاهرة الزواج الديني دون تثبيت في تركيا هي رفض المرأة لهذا النوع من العقود الذي يتعزز بوعيها بحقوقها واستحقاقها لنفسها وعلى الرغم من كون المرأة طرفاً يملك الخيار بالقبول أو الرفض لا يمكن تشريع استغلال الرجال لظروفها المأساوية أو استثمار محدودية درايتها بحقوقها لإبرام عقود تمثل وعوداً بالاستقرار وبناء أسرة بنظر المرأة، فيما يراها الطرف الأخيرة وسيلة لإشباع الرغبات والتملص من الواجبات.
تم إنتاج هذه المادة بدعم من JHR صحفيون من أجل حقوق الإنسان