تخرج هيام السيدة الخمسينية السورية صباحاً كل يوم من منزلها الكائن في منطقة إسينيورت وتتوجه إلى حي بهتشة شهير في إسطنبول لتؤدي عملها في تنظيف وإدارة شؤون منزل إحدى العائلات السورية وهي ممتنة لاستقرارها في العمل بمنزل واحد بعد أن كانت تتجول لتنظيف المنازل في مختلف أنحاء إسطنبول، فهي المعيل الوحيد لأسرتها كما تروي في حديثها لموقع تلفزيون سوريا.
أحدثت ظروف الحرب واللجوء تغييراً في دور المرأة السورية الاقتصادي وكثيراً ما كان هذا التغيير إلزامياً، فمع حاجتهن الملحة لتحقيق دخل أقحم الواقع الجديد نساءً سورياتٍ في سوق عمل لسن مؤهلات إلى دخوله ما أجبرهن على تأدية أعمال مجحفة كانت خيارهن الوحيد في ظل أعبائهن الاجتماعية وخلفياتهن المهنية المعدومة.
دخل متواضع ووصمة اجتماعية
بعد معاصرة القصف والدمار في مدينة حلب لجأت هيام وعائلتها إلى مدينة إسطنبول التركية وهنا بدأت رحلتها في البحث عن مصدر دخل مع تطلعات أقصاها تأمين الحد الأدنى من الطعام والشراب ودفع الإيجار والفواتير، فبسبب سوء حالته الصحية بعد خروجه من المعتقل إضافة لسنه المتقدم رُفِض زوج هيام الرجل الستيني من كل عمل تقدم له وتحولت مهمة إعالة الأسرة المكونة من الزوج والزوجة وابنتهم ذات الـ 14 عاماً إلى هيام بشكل كامل.
تقول هيام، التي لم تتم تعليمها، إن خيارات العمل بالنسبة لها كانت محدودة بسبب عدم إتقانها لأي مهنة وعدم حيازتها على أي شهادات فكان خيارها الأول إحضار عمل من الورشات للمنزل، وعملت بعدة مجالات (تنظيف قماش، خرز، براغي وأعمال أخرى من هذا النوع) إلا أن جميعها كانت تشترك بتطلبها للجهد والوقت ومردودها المادي الشحيح، كما كانت المهام تستهلك ساعات عمل متواصلة ولا تعود على مؤديها إلا ببضع ليرات لا تغطي شيئاً من الاحتياجات اليومية، كما تقول.
يشيع في سوق العمل التركي من مختلف الصناعات "توزيع العمل إلى المنزل" وهي أعمال يدوية تعتمد على القيام بعمل واحد رتيب روتيني لكمية كبيرة من المنتجات قائم على التقسيم العالي للمهام أكثرها شيوعاً هي الأعمال التي لا يمكن للآلات القيام بها.
لجأت هيام إلى تقديم خدمة التنظيف في المنازل فعائدها المادي مع تواضعه يبقى أفضل من العمل الذي توزعه الورشات ولكنها بالمقابل أجبرت على تقبل الوصمة الاجتماعية من محيطها المستنكر لعملها في تنظيف البيوت.
تعتبر تركيا البلد الأول من حيث تعداد اللاجئين السوريين ويبلغ عدد السوريين تحت الحماية المؤقتة فيها ما يقارب 3 ملايين 300 ألف لاجئاً بحسب التحديثات الأخيرة لدائرة الهجرة التركية ويبلغ عدد النساء ما يقارب مليون ونصف من إجمالي العدد.
ظروف أسرية حاكمة
لا يتحكم الوضع التعليمي فقط في الفرص المتاحة للسيدات السوريات الراغبات في العمل فتتحكم الظروف العائلية والاجتماعية بخياراتهن ويضطررن أحياناً لممارسة أعمال مجحفة كما تقول خلود كونها الخيار الوحيد الملائم لالتزاماتهن الأسرية، فعلى الرغم من تخرجها في كلية الآداب في جامعة حلب تعمل خلود مع ابنتها ذات الـ 15 عاماً في "شك الخرز " الذي يطيح بصحة العيون والعمود الفقري ويتطلب كثيرا من الوقت قبل أن يعود عليها وعلى أسرتها ببضع مئات الليرات، كما روت في حديثها إلى موقع تلفزيون سوريا.
وتستمر خلود في العمل مجبرة كون الدخل المتواضع الذي تحققه يسند أسرتها ولو قليلاً خاصة مع انعدام بدائل تتناسب مع اضطرارها للبقاء مع أطفالها الستة بانتظار لم الشمل إلى أوروبا بعد أن تركهم زوجها وشق طريق الهجرة إلى هناك.
تؤكد عضو تجمع "سيدات حياة" إسراء قطاش على انتشار هذه النوع من الأعمال في أوساط السوريات وتتحدث عن تجارب سيدات رصدتها في محيطها بحكم نشاطها المجتمعي وتقول "إن العمل بالأعمال اليدوية الموزعة من الورشات كان أحد الحلول لكثير من السيدات في ظل عدم كفاية التأهيل وانعدام دور الرعاية ميسورة الوصول".
وتضيف قطاش إنه في ظل غياب تنظيم هذه الأعمال تواجه النساء مشكلات عديدة أبرزها التعرض للاستغلال في الأجر، لذلك تقترح إسراء إنشاء شبكات وصل تنظم هذا النوع من الأعمال وتسهل التواصل ما بين طالبي ومزودي الخدمة من النساء الراغبات بالعمل.
عمالة خارج القيود ومخاوف من المستقبل
يتعدى عدم رضا السيدات السوريات عن هذا النوع من الأعمال مسألة الدخل المتواضع غير العادل فتسيطر على كثير منهن المخاوف من المجهول من عمالتهن خارج القيود التي يخسرون معها أي حقوق في حال المرض أو العجز أو الشيخوخة فتقول خلود إنها تتخوف من أي ظرف صحي طارئ يمنعها من العمل ويحرمها من تحقيق دخل هي بأمس الحاجة إليه وتؤكد هيام على هذه النقطة وتقول: "بعد أن بلغت الثالثة والخمسين أتساءل ماذا سيحدث بعد عدة سنوات عندما أصبح غير قادرة على العمل وكيف سنعيش وكيف سندفع إيجار منزلنا".
في ظل عدم تنظيم الأعمال المنزلية وانعدام الأجر العادل يغيب حق أساسي من حقوق الإنسان عن فئة من السوريات المجبرات على العمل فتنص المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق كل شخص في العمل وفي حرية اختيار العمل وفي شروط عمل عادلة ومرضية وفي الحماية من البطالة.
وكان موقع تلفزيون سوريا قد أجرى استطلاع رأي في الشهر التاسع من العام الماضي لقياس رضا السوريات في تركيا عن الخدمات المقدمة من منظمات دعم المرأة واستهدف الاستبيان النساء السوريات المقيمات في كل من محافظتي إسطنبول وغازي عنتاب اللتين تحتلان المرتبة الأولى والثانية بين المدن التركية من حيث تعداد السوريين.
شاركت في الاستبيان آنذاك 69 سيدة وطُلِب من المشاركات تحديد مجالات الدعم التي يحتجنها من منظمات دعم المرأة وسمح لهن تحديد أكثر من إجابة، ووفقاً لنتائج الاستطلاع جاء "التمكين الاقتصادي والتأهيل المهني" في المرتبة الأولى كإحدى مجالات الدعم التي يحتجنها ولا يستطعن الوصول إليها بعد أن حددته أكثر من 60 بالمئة من السيدات.
تنتشر العمالة خارج القيود في أوساط النساء السوريات وعدم تنظيمها يحرمهن من الضمان الاجتماعي ويهدد الاكتفاء الاقتصادي لكثير من الأسر مستقبلاً ما يستدعي الالتفات لهذه المشكلة وتأطيرها ضمن مؤسسات تضمن حقوق جميع الأطراف لتجنب آثارها طويلة وقصيرة الأمد.