بين متعة وفائدة تحاول الأعمال الفنية القفز لتمنح المشاهد غايته، لتصبح تبعاً لذلك على صلة وثيقة بالمجتمع في مختلف شرائحه، وتكون منفذه لتجسيد الهمّ الاجتماعي من ناحية والتخفيف والترفيه عنه من ناحية أخرى.
بدأت الدراما السورية حقبتها الذهبية بالتخصص بالأعمال الدرامية التاريخية التي لاقت نجاحاً باهراً، فكان لها حصة مهمة في الشاشات العربية وشكلت بصمة في ذهن المشاهد العربي بما يخص ماهية الأعمال السورية إذ صنعت لها هوية خاصة.
حدثت نقلة نوعية في شكل الدراما عندما بدأت تصوّر الهموم الاجتماعية، واختار الصانعون الغوص في عمق الأزمات الاجتماعية وتوثيقها والبحث عن حلول بخصوصها، فأصبحت أكثر قرباً من المشاهد السوري تحديداً واندمجت معه، وشكّلا معاً هوية موحدة، فأصبحت مرآة السوريين وتطورت صناعتها وآلياتها من إنتاج وتسويق وغزت الشاشات الصغيرة لتكون لها الحصة الأكبر في بيوت المشاهدين وقلوبهم.
لم تكن السياسة همّاً من هموم الدراما في ذلك الحين، علاوة على أن مقص الرقيب كان يقوم بواجبه لاستئصال ما يمسّ القضايا السياسية، تاركاً مساحة حرة للمشكلات الاجتماعية لتكون منفذاً للتفريغ لمنع السوريين من التفكير بما هو أبعد، وما كان على صانعي الدراما سوى القبول ضمنياً والتنازل عن مساحة الحرية تلك.
ليس من الضروري أن تأخذ الأعمال الفنية صفاً سياسياً معيناً، بل من الواجب الالتزام بمعايير الاحترافية بتقديم الواقع بشكل موضوعي
غير أن الأمر لم يعد مثل السابق بعد ثورة عام 2011، فقد شهدت الدراما سقوطها الحرّ أسوة بما سقط من حياة السوريين، وكان الانهيار مدوياً إلى درجة بقي فيها أغلب العاملين في هذا المجال من دون عمل، واضطروا إلى السفر والهجرة من أجل تحصيل فرصة عمل متغاضين بذلك عن الجودة والقيمة التي كانت هدف الدراما والأعمال السورية على مرّ سنوات.
وعلى الرغم من أن تلك المرحلة كانت في أشد الحاجة لأعمال توثق الواقع وتمنع تزويره، إلا أن المشتغلين في الدراما - وأعني هنا الإنتاج وبعض الفنيين والممثلين الذين لم يعبروا عن رأي سياسي - آثروا على أنفسهم النأي بالنفس عن الأزمات السياسية من أجل الحفاظ على الأرباح التجارية ولضمان وجود سوق توزيع كبيرة من دون خلفيات سياسية قد تسبب المقاطعة، أما الممثلون فمنهم من اتخذ موقفه إلى جانب النظام ومنهم من أوضح وقوفه إلى جانب الثورة وهو الأمر الذي دفع من أجله ثمناً بأن يستبعد من الأعمال السورية.
يؤخذ على الأعمال السورية في تلك الفترة على قلتها عدم إيضاح موقف سياسي، ووقوفها بخجل على النتائج المخزية للانحطاط الاجتماعي والاقتصادي عن طريق تصوير المجتمع بشكل هزيل، أو وجود أعمال صُنفت على أساس مواقف أبطالها فكانت هناك أعمال تصب في صالح الثورة وأخرى تصب في صالح النظام، وهو أمر يجافي الاحترافية وكان من الحريّ عدم شخصنة الأعمال الفنية بناء على أعمال ممثليها.
ليس من الضروري أن تأخذ الأعمال الفنية صفاً سياسياً معيناً، بل من الواجب الالتزام بمعايير الاحترافية بتقديم الواقع بشكل موضوعي، بينما تبقى المشكلة الأخلاقية في مواقف الممثلين والعاملين في القطاع الفني في عدم وضوح موقفهم السياسي والأخلاقي بشكل خاص، والتعامل ببراغماتية وتناس أن للفن رسالة قبل أن يكون مهنة ذات أجر.
اتضحت أهمية الأعمال الفنية بالتزامن مع ثورة التكنولوجيا التي سهلت وصول أعمال من بلاد مختلفة إلى شاشة المشاهد، فأثر ذلك على تطور الحسّ الدرامي والذائقة الفنية لديه، غير أن وجود المنصات التلفزيونية كان له أثر سلبي على جودة العمل لأنه أصبح يهتم بنسب المشاهدة على حساب الجودة، وبدأ رأس المال يضع ثقله من أجل زيادة الأرباح الأمر الذي جعلنا نواجه تصنيفات درامية جديدة مثل الأعمال الدرامية المشتركة، أو نشوء فكرة الدراما المعرّبة التي تفتقد إلى الفكرة والأداء والقيمة والرسالة وتعتمد على الاستعراض والبذخ في مقابل أداء أقل ما يقال عنه إنه متكلف وضعيف، ويعيب من يعمل به حتى وإن كان في سبيل تحصيل ربح مادي.
إن مهمة العمل الفني إدراك وجود مشكلة أو معضلة والعمل على تحليلها وشرحها للمشاهد ومحاولة تقديم حلول.
سيطرت مؤخراً القيم الاستهلاكية فأصبح العمل الفني مجرد سلعة وربما كان الممثلون والفنيون كذلك في نظر الجهات المنتجة، وهو ما انعكس على وجهات نظر الجماهير التي لم تتقبل الصورة الجديدة وانتقلت بسبب وجود تلك المنصات أيضاً إلى مشاهدة الأعمال الأجنبية وفضّلتها على المنتج المحلي.
في رمضان الماضي وهو الموسم الذي تتسابق فيه الأعمال الدرامية من الأقطار العربية كافة، لُوحظ تغير في شكل الدراما السورية وهو أمر لفت المهتمين في القطاع وخارجه، فقد حضرت أعمال سورية صرف في محاولة لاستعادة أمجاد الماضي، من تسليط الضوء على مشاكل اجتماعية مع ترك فراغ في طرح المواضيع السياسية وهو ما أسست عليه الدراما السورية نجاحها قبل ذلك، ولم يكن هذا سوى نتيجة لإعادة تطبيع النظام السوري مع بعض الدول العربية التي عملت على شراء الأعمال وعرضها بعد أن فك الحظر عن النظام اقتصادياً.
وبصرف النظر عن القضايا السياسية، فإن الأعمال التي عرضت وإن أعادت إلى المشاهد تفوق الدراما السورية من حيث النص والإخراج والمهارة والاحترافية في اللباس والديكور والتصوير وأداء الممثلين العالي في تقمص الشخصيات، إلا أنها أوضحت وجود أزمة حقيقية في صلب مهمة الأعمال الدرامية، وهي أزمة الهوية.
إن مهمة العمل الفني إدراك وجود مشكلة أو معضلة والعمل على تحليلها وشرحها للمشاهد ومحاولة تقديم حلول، غير أن ما هو واضح اليوم أن الدراما لم تشخص المشكلة تماماً أو أنها لامست المجتمع بشكل سطحي ولم تتعمق في أزمته، وهو أمر قد يجعلها على مسافة منه على الرغم من تفوق إمكانياتها.
بينما تعمل الأعمال الفنية في الدول العربية على طرح مشكلات اجتماعية حديثة، فالدراما المصرية على سبيل المثال وإن لم تمتلك الشروط الفنية التي تنافس بها عربياً، من صوت أو تصوير أو إضاءة أو حتى أداء تمثيلي مقنع، غير أنها تتمتع بجرأة اجتماعية هائلة بتطرقها إلى مواضيع جريئة تعد من التابوهات الاجتماعية، وتؤسس عليها تغيرات اجتماعية أو قانونية في كثير من الأحيان.
تبقى أزمة الدراما السورية في الحقيقة منبعثة من الوضع الاجتماعي المذبذب، إذ إن أزمة الهوية ليست حكراً على الأعمال الفنية فحسب، بل ربما تعد المشكلة الأكثر حضوراً في حياة السوريين ممن هجروا أو بقوا في سجون الداخل مرغمين، خاصة وأن السوريين اليوم أبعد ما يكونون عن الاستقرار الاجتماعي أو الجغرافي أو النفسي بشكل كبير، ويعجزون حتى اليوم عن إدراك هويتهم وتشخيص مشكلاتهم وفق الظروف والشروط الموضوعية المتاحة في الوقت الحاضر.