ما زالت المنطقة منشغلة بأحداث متلاحقة بعد تصفية الصفوف الأولى من قادة حزب الله بنيران الكيان الإسرائيلي، وما يترتب على ذلك من تساؤلات مشروعة حول مستقبل المنطقة.
حاول النظام السوري منذ اندلاع طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر في العام الفائت، أن ينأى بنفسه عن أي أزمات سياسية وعسكرية في المنطقة، وانكفأ داخلياً ليس من أجل إصلاح أزماته الداخلية وفق ما يبدو، بل من أجل حماية ما بقي له من مكتسبات سياسية وكي لا يجعل نفسه واجهة قابلة للاصطياد والتضحية بها، ويبدو أن هذه السياسة التي اتبعها منذ بداية الثورة السورية قد نفعته إلى حد بعيد، ولكنها أدت إلى تراجع نفوذه المباشر في لبنان وإضعاف قدراته العسكرية والسياسية الإقليمية.
تتضح اليوم محدودية دور النظام السوري في مقاومة الهجمات الإسرائيلية على لبنان، بالمقارنة بشكل خاص مع الدور الذي لعبته سوريا في الصراع اللبناني الإسرائيلي في عقود سابقة، إذ كان لها تاريخ طويل من التأثير السياسي والعسكري في لبنان، من خلال دعمها لحزب الله والفصائل الفلسطينية المسلحة.
لقد أصبح حزب الله، المدعوم من إيران، الفاعل الرئيسي في مقاومة الهجمات الإسرائيلية على لبنان، وعلى الرغم من أن النظام السوري ما زال يحتفظ بعلاقات شائكة مع حزب الله إذ سهل لعناصره الدخول إلى سوريا للتخفي والاختباء، إلا أن تأثيره المباشر في أي عمليات عسكرية ضد إسرائيل بات أقل وضوحاً.
وإذا ما افترضنا أن النظام السياسي في دمشق لم يشأ التدخل في النزاعات الإقليمية مقرراً سحب نفسه من محور الممانعة بشكل تكتيكي، لكن ما الذي يمكن أن يبرر له الصمت عن تجاوز واختراق الآلة العسكرية الاسرائيلية الحدود السورية التي ظل مصراً سنوات على أنه وحده من يستطيع حمايتها؟ وأوهم حاضنته الشعبية ومؤيديه بذلك فغفروا له سوء الأحوال الاقتصادية والعسكرية ومنحوه ثقة مطلقة في مقابل ذلك؟
قد يرى مؤيدو النظام السوري عجزه عن تقديم العون المباشر للفصائل التي تخوض حرباً ضد إسرائيل من عدة زوايا، بناءً على رؤيتهم للوضع العام وللتحديات التي يواجهها النظام.
إن ترجيح النظام عدم الانخراط في مواجهات عسكرية مع إسرائيل يشير بشكل لا يدع مجالاً للشك، إلى انسحابه من محور المقاومة الذي اعتمد عليه إعلامياً لسنوات طويلة وجعله مبرر وجوده الأهم في السلطة، وعلى الرغم من إخلاله بالتزامه الأخلاقي والسياسي تجاه شعبه إلا أنه لم يستطع التخلص من العلاقة مع الحليف الإيراني حتى الآن.
لم يقتصر الأمر على اختراق المجال الجوي، بل تفيد الأخبار بتقدم الجيش الإسرائيلي وتحريك السياج الحدودي في المنطقة العازلة على الحدود بين سوريا والكيان الإسرائيلي، وهو أمر يجعلنا نسائل من كان يدافع عن مشروعية بقاء النظام السوري حاكماً للشعب الذي ثار ضد سلطته، بدعوى أنه جزء أساسي من مقاومة إسرائيل والدفاع عن الأراضي الفلسطينية، كيف يمكن أن نبرر الصمت المتكرر في مواجهة الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد الأراضي السورية؟
قد يرى مؤيدو النظام السوري عجزه عن تقديم العون المباشر للفصائل التي تخوض حرباً ضد إسرائيل من عدة زوايا، بناءً على رؤيتهم للوضع العام وللتحديات التي يواجهها النظام: بعضهم قد يبرر عدم تدخل النظام في الصراع مع إسرائيل بأنه يحتاج إلى تركيز موارده وجهوده على استعادة الاستقرار داخل سوريا بعد سنوات الحرب بعد أن تضررت قدراته العسكرية والاقتصادية، وقد يرون أن الأولوية هي إعادة بناء البلاد ومواجهة التهديدات الداخلية، بما في ذلك الجماعات المتطرفة والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، ذلك أن المعركة الرئيسية الآن هي مع الإرهاب والجماعات المسلحة داخل سوريا. وبالتالي، أي تورط مباشر مع إسرائيل قد يُنظر إليه على أنه يصرف الانتباه والموارد عن هذه المعركة الوجودية.
آخرون قد يشيرون إلى أن النظام السوري لا يزال يدعم المقاومة ضد إسرائيل، ولكن بشكل غير مباشر، من خلال تحالفه مع حزب الله وإيران، ويرون أن وجود حزب الله، الذي يعتبر لاعباً رئيسياً في مقاومة إسرائيل، هو بحد ذاته امتداد لدعم النظام السوري للمقاومة، وبالتالي، يُنظر إلى النظام على أنه يساهم في الصراع مع إسرائيل عبر توفير بيئة داعمة لحلفائه.
سيلتمس بعض المؤيدين له العذر أيضاً بعدم مواجهة إسرائيل بشكل مباشر بسبب الضغوط الدولية والتهديدات التي تأتي من الدول الغربية وإسرائيل نفسها، كونه يواجه بالفعل عقوبات دولية وضغوط اقتصادية بسبب الجرائم التي ارتكبها النظام ضد شعبه.
لقد اختار النظام السوري حماية كرسي السلطة الخاص به ليس على حساب قضايا السوريين وحقوقهم وحدود أراضيهم فحسب، بل يتضح اليوم أنه قامر بقضايا جميع من زعم أنه التزم بهم سياسياً.
فئة أخرى ستبرر أن النظام السوري يلعب لعبة سياسية بمحاولة الحفاظ على توازن دقيق بين القوى الإقليمية والدولية، فسوريا تخضع للنفوذ الروسي أيضاً، والتي لها مصالح خاصة في المنطقة وقد لا ترغب في تصعيد الأمور مع إسرائيل، بالتالي، يرون أن النظام مجبر على الحفاظ على هذا التوازن، حتى لو كان على حساب دعمه المباشر لحزب الله، لكن ذلك يثبت أنه في حساباته السياسية والعسكرية مرتهن لقرارات ومصالح دول مستعمرة دعمته للبقاء في السلطة في مقابل مصالحها الخاصة.
بالمجمل، قد يجد المؤيدون له والداعمون لوجوده تبريرات متعددة خاصة وأن الوضع العسكري ليس على ما يرام من الناحية العسكرية، فجيش النظام يواجه تحديات كبيرة مقارنة بالآلة العسكرية الإسرائيلية، التي تُعتبر واحدة من أكثر الجيوش تقدمًا في العالم من حيث التكنولوجيا، التسليح، والتدريب، إذ تعتمد إسرائيل على نظام دفاع متكامل وأيضًا على دعم دولي كبير، خاصة من الولايات المتحدة. كما أن لديها جيشًا مدربًا بشكل جيد، وموارد مالية وتقنية كبيرة تدعم استمرارها في تطوير الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية.
أما جيش النظام، فعلى الرغم من امتلاكه لقوة بشرية كبيرة وخبرة قتالية، فإنه يعاني من ضعف في القدرات التقنية والتكنولوجية مقارنة بإسرائيل، وسلاح الجو قديم نسبيًا ولا يضاهي التقدم الإسرائيلي، لكن المشكلة الأعمق أن الجيش والدفاعات السورية يفتقرون إلى العقيدة والإيمان في القضية، وهو في تركيبته لا يختلف ربما عن منظمات مسلحة لها ولاءاتها الخاصة وارتباطاتها التي قد تختلف في مصالحها، فينحازون إلى انتماءات غير وطنية ضمن هيكلية تعتمد على الاصطفافات والمحسوبيات والرشى، وأن التجربة أثبتت أنه يعمل لخدمة النظام الحاكم لا لخدمة قضايا السوريين أو غيرهم من دول الجوار.
لكن ذلك كله قد يوجهنا إلى سؤال أكثر أهمية، وهو هل فقط لا تستطيع سوريا مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية؟ أم أنها لا تريد ذلك أصلاً؟
لقد اختار النظام السوري حماية كرسي السلطة الخاص به ليس على حساب قضايا السوريين وحقوقهم وحدود أراضيهم فحسب، بل يتضح اليوم أنه قامر بقضايا جميع من زعم أنه التزم بهم سياسياً وتخلى حتى عن أحقية القضية الفلسطينية وحق العرب المشروع في مقاومة إسرائيل، أغلب الظن أن النظام السوري صنع لنفسه زنزانته ممن والاهم وأخلص لهم معتقداً أن في ذلك خلاصه، لكن الأحداث الأخيرة جعلته يرى نفسه بعين الحقيقة وأصبح من الجليّ أن له مدة صلاحية لا يمكن أن يكون قابلاً للاستهلاك بعدها.