عودة إلى المجهول.. السوريون بين صواريخ الاحتلال وأقبية النظام

2024.10.04 | 06:04 دمشق

555155115
+A
حجم الخط
-A

هل جربت يوماً أن تنزح باتجاه بلادك مضطراً؟ لقد جربها السوريون هذه المرة إذاً، كما جربوا من الموت أسوأه ومن التهجير أوجعه.

آلاف من السوريين يقفون اليوم على بوابات بلادهم الحدودية طالبين اللجوء إليها، وفي حين تمنعهم سلطة الأمر الواقع المتمثلة في الأجهزة الأمنية وشرطة الحدود من الدخول إلى بلادهم،  يُسمح للنازحين من الجانب اللبناني بالدخول.

وبعد أن أجبرتهم سيناريوهات المجتمع الدولي، التي تشجع عودتهم إلى بلادهم الأم باعتبارها بلاداً آمنة، على ترك أوطانهم البديلة، ها هي اليوم صواريخ العدو الصهيوني تجبرهم على العودة إلى البلاد التي هربوا منها خوفاً من بطش نظامها الحاكم وممارساته الوحشية، مجازفين باعتقالهم على الحدود أو برفض إدخالهم وتركهم في العراء.

أمران أحلاهما مر: البقاء تحت وابل نيران العدوان الصهيوني أو العودة إلى معتقلات النظام السوري ومجازره، أو الحياة تحت رحمته في أحسن الأحوال. ولكن، لم يمضِ وقت طويل قبل أن تمتد نيران العدوان إلى الجانب السوري، في الوقت الذي لم ينتهِ فيه سوريو الداخل أيضاً من تجاوز معاناة التأقلم والتقبل وطيّ صفحات من الألم للبدء من جديد.

فعلياً، لم ينعم السوريون باستقرار حقيقي منذ استلام حزب البعث السلطة، وأصبح ذلك أكثر وضوحاً مع بداية الألفية الثالثة، إذ لم تخلُ البلاد من توترات داخلية سياسية وحروب إقليمية، مثلما حصل في تموز عام 2006، حين فتح السوريون منازلهم للقادمين من لبنان الشقيق، إيماناً منهم بأحقية القضية ورفضهم للاحتلال الإسرائيلي.

اغتيال نصر الله لا يعني بالضرورة إضعاف حزب الله على المدى القصير، ويبدو أن العملية قد تستغرق وقتاً أطول مما يمكن توقعه.

ثم أتت الثورة السورية، فاجتمع العالم ضدها ولم يوفر سبيلاً لإسقاطها وتحويل مساراتها. تخللتها أزمة الفصائل المسلحة ومسألة اللجوء التي عانى منها الشعب السوري ويلاتٍ شتى، إلى درجة جعلت المجتمع الدولي يسأم بعد طول المدة من الملف، وأصبح المزاج العام يميل إلى إغلاقه وإعادة اللاجئين ومحاولات تعويم نظام الأسد.

لكن الأحداث الأخيرة واغتيال زعيم حزب الله، حسن نصر الله، في غارة جوية إسرائيلية، وما تلاها من سلسلة عمليات عسكرية في المنطقة جعل الأوضاع تأخذ مساراً جديداً. فمنذ حرب تموز عام 2006، بقي التصعيد بين الكيان الإسرائيلي وحزب الله مقتصراً على التصريحات والتهديدات، في حين كان حزب الله مشغولاً بتوغله في الملف السوري. وفي الوقت نفسه، كان العدو الصهيوني يتغاضى عن هذا التوغل، طالما أن الأمور تسير بما يتماشى مع مصالحه.

وتبعاً لتسارع الأحداث، يبدو اليوم أن الأمور أخذت منحى مختلفاً، بات فيه من الضروري التخلص من الحزب بتوافق أميركي إيراني، وعقد صفقات دولية جديدة لفرض سيناريوهات جديدة في المنطقة، لم تتضح معالمها بعد.

اغتيال نصر الله لا يعني بالضرورة إضعاف حزب الله على المدى القصير، ويبدو أن العملية قد تستغرق وقتاً أطول مما يمكن توقعه. لكنها أثرت بشكل مباشر على المشهد السياسي والعسكري في المنطقة. فما زال دعم حزب الله قوياً بين قواعده الشعبية، خصوصاً في ظل الإيمان بخطابه المعادي للعدو الإسرائيلي، وترافق ذلك مع التهجير الواسع لسكان الضاحية الجنوبية نحو سوريا، مما يضع ضغطاً إنسانياً واقتصادياً على كل من لبنان وسوريا.

إن مخاطر اندلاع حرب شاملة قد تؤدي إلى نزوح جماعي مستمر من الضاحية الجنوبية، مما يؤثر على التركيبة الديمغرافية في لبنان وسوريا على وجه الخصوص، ويزيد من حالة عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي. فمع ازدياد حركة النزوح، تزداد الضغوط على المناطق الحدودية السورية، التي تعاني بالفعل من تدهور اقتصادي ودمار كبير. وهذا يزيد من تعقيد الوضع الإنساني في سوريا، ويعيد تشكيل التوازن السكاني في بعض المناطق.

الوضع السوري معقد بما فيه الكفاية، ولكن من الواضح أنه سيزداد تعقيداً في الأيام القادمة.

ما هو موقع سوريو الداخل من هذا السيناريو إذاً؟

الصور والمقاطع المرئية القادمة من سوريا اليوم تظهر مؤيدي حزب الله وهم يتجولون في ساحات المدن على دراجاتهم النارية حاملين أعلام الحزب، مرددين شعارات طائفية، ويطلقون الرصاص في الهواء في مدن دخلوها البارحة لاجئين، ويتصرفون اليوم فيها وكأنهم فاتحون. فيستبيحون بيوتها ويستوطنون فيها من دون ردع أو محاسبة، ويفرضون حظر تجول إجباري على محلات المدن وسكانها، مع غياب تام لقوات النظام، الذي يستخدم قوته فقط ضد السوريين.

الوضع السوري معقد بما فيه الكفاية، ولكن من الواضح أنه سيزداد تعقيداً في الأيام القادمة. فالداخل السوري يرزح تحت ضغط أمني ثقيل لا مثيل له في المنطقة، فضلاً عن صعوبة الحياة والمعيشة من جراء الأزمة الاقتصادية المستمرة. ولكن، ليس ذلك وحده هو المشكلة. فالسوريون قد يتجاوزون ذلك، كما فعلوا سابقاً في تحمل العبء الأكبر من الحرب في عام 2006. المشكلة الأساسية هي أن السوريين اليوم يدركون أنهم باتوا ملعباً لتطبيق خطط تغيير ديمغرافي، تغير شكل المنطقة. فمنذ منح الجنسية للمرتزقة الذين قاتلوا إلى جانب النظام السوري، وقبل ذلك تهجير سكان ريف دمشق وريف حمص وغيرها باتجاه الشمال السوري، أصبح هذا التغيير أكثر وضوحاً.

هذا السيناريو لا يبدو مهماً في نظر آلة حرب العدو الإسرائيلي، الذي قد يستخدم الأجواء السورية لضرب أهداف محددة تتسق مع خططه غير المعلنة، من دون أن يكون للسوريين وزن في ميزان المجتمع الدولي مرة أخرى.

اللاجئون القادمون اليوم من لبنان ليسوا لاجئين مدنيين فقط، بل بينهم موالون مجندون أو مسلحون، معروفو الولاء والانتماء بما لا يقبل الشك أو التبرير. ولهم تاريخ من الدماء التي لم تجف بعد مع العائلات السورية، وهو ما يضع سوريي الداخل، الذين استُنزفت طاقتهم في محاولة التأقلم مع الوضع السوري الراهن، في فوهة المدفع، ويجعل من البلاد قنبلة موقوتة في وقت لا يبدو فيه أن القادمين سيعودون إلى بلادهم في وقت قريب.

لقد أعاد نزوح سكان الضاحية الجنوبية إلى سوريا، نتيجة لتصاعد الهجمات الإسرائيلية، خطر التغيير الديمغرافي إلى الواجهة. إذ توجهت العديد من العائلات اللبنانية، خاصة من معاقل حزب الله، نحو سوريا واستقرت في مناطق مثل القصير وريفها في حمص، وهي مناطق تخضع لسيطرة حزب الله منذ سنوات. وقد أسهمت المرجعيات المعنية في تأمين المساكن وتوفير بعض المساعدات اللوجستية لهم.

أما بالنسبة لسوريي الخارج، فمسألة العودة التي كانوا يحلمون بها بعد إسقاط نظام الأسد أو لعدم قدرتهم على البقاء في المنفى بسبب العنصرية والضغط الشعبي والحكومي المستمر أو بسبب الحنين، باتت حلماً بعيد المنال بعد فوضوية الأحداث الأخيرة، وبعد الاستيطان الجديد الذي شهدته سوريا. وهكذا، أصبحت الثورة السورية والسوريون مجدداً قرباناً لمشاريع جديدة في المنطقة، ليُدفع الثمن مرة أخرى من جراء ما اقترفه النظام السوري وحزب الله في سوريا ولبنان.

لقد عاش السوريون ما يعيشه لبنان اليوم من دمار ومجازر وخوف ونزوح طوال سنوات على يد نظام الأسد وأعوانه من حزب الله وإيران وروسيا. وهم يعرفون جيداً الأثمان التي قد تدفعها الشعوب من جراء حروب الحكومات العبثية التي لا تضع شعوبها في الأولوية، بل مصالحها الخاصة.

السوريون يعودون اليوم لتضميد جراح خساراتهم بأنفسهم، كما اعتادوا دائماً، في وقت لا يرى فيه أحد أن قضيتهم ذات أهمية.

ليست مفاجأة أن الثورة السورية وُلدت وحيدة وبقيت وحيدة. لكن السوريين تعلموا بالتجربة الصعبة ألا تثنيهم الأحداث الجارية عن إيمانهم بأحقية قضيتهم.