تعد كلمة "دولة" كلمة حديثة الاستعمال نسبيا، ولم تعرف في أوروبا قبل عصر النهضة، فقد ظهر المفهوم الحديث للدولة نتيجة تطور مفهوم السلطة وتحولها من سلطة مغفلة، إلى سلطة مجسدة، فسلطة مؤسسة. إذ تمتاز الدولة عن غيرها من الكيانات السياسية بوجود سلطة مؤسسة. أي، سلطة قائمة على قواعد قانونية تحدد مدى هذه السلطة، وتنظم العلاقات بين المواطنين والدولة، وبين المواطنين أنفسهم.
وحسب "فيليب برو" في كتابه "علم الاجتماع السياسي": "يتجلى الطابع المؤسساتي للدولة في مستويين. فهناك أولا الفصل بين الشخص الطبيعي للحكام والتصور المجرد للقوة العامة". وهكذا نلاحظ في "المَلَكِيَّات"، تمييزا بين الملك والتاج.. إن الحكام يصبحون حينذاك "أجهزة للدولة" ورئيس الجمهورية مثله مثل الوزراء يمارسون وظيفة. ويسمح هذا الفصل بتصور استمرارية الدولة التي لن يضيرها بعد ذلك تعاقب الأشخاص الطبيعيين القابلين لأن يجسدوها وقتيا..
هذا الشكل للدولة نجد له تجسيدا واضح المعالم في الديمقراطيات المتقدمة. ولكن على المقلب الآخر حيث فشلت أساليب المحاكاة فشلا ذريعا، وحيث استوردت الأنظمة السياسية شكل الدولة مفرغا من أي مضمون، لا يستغرب أن نقرأ ذلك التعريف العسكري للدولة على لسان أحد أهم الشخصيات المؤسسة للأنظمة الشمولية "فلاديمير لينين" بأنها "تنظيمات خاصة من الرجال المسلحين".
عندما تقرر الدولة اللجوء إلى العنف ضد مواطنيها؛ تحشد ترسانة كاملة من أجهزة العنف والإرهاب، حيث يجد الضحايا أنفسهم بلا حول ولا قوة
يقول "نويل كالهون": "للأسف كان هذا التعريف نبويا، إذ عبأت دول قوية – مثل ألمانيا في عهد هتلر وروسيا في ظل حكم ستالين – موارد هائلة في قطاعات الجيش والشرطة والمؤسسات البيروقراطية، تمهيدا لارتكاب جرائم منظمة على مستوى يفوق كل تصور. حتى حكومات دول ضعيفة – مثل رواندا – تمكنت من إعداد لوائح بأسماء أبناء التوتسي لسوقهم إلى الذبح، واستوردت سواطير لتنفيذ إبادة جماعية مهولة شهدها عام 1994م".
هنا يصبح الصراع بين الأفراد والدولة معركة غير متكافئة على الإطلاق، فعندما تقرر الدولة اللجوء إلى العنف ضد مواطنيها؛ تحشد ترسانة كاملة من أجهزة العنف والإرهاب، حيث يجد الضحايا أنفسهم بلا حول ولا قوة، فالدولة قادرة على إغلاق أبواب المساعدة كلها في وجه الأفراد تاركة إياهم يواجهون مصيرهم الأسود وحدهم.
في الدول الحقيقية تتعامل الحكومات مع البشر على أنهم مواطنون يستحقون الاحترام وخدمتهم واجبة، أما في تلك الكيانات السياسية التي تسمى دولا نتيجة لعجز علم السياسة أن يجد لها تسمية أخرى؛ تؤسس السلطة لعلاقة السيد والعبيد بأسلوب ممنهج حيث يتم تدريب المواطن على الإذعان بشكل يومي كجزء من عملية التركيع والتطويع والتطبيع وصناعة حالة القطيع.
في مثل هذه الدول يجبر المواطن أن يخون كرامته، وأن يخون مبادئه وقيمه، والأهم أن يخون إنسانيته، وتختزل وطنية المرء بمدى مقدرته على الخيانة، فكلما ارتفع منسوب الخيانة لديه ارتفع منسوب وطنيته. وعليه أن يثبت ذلك دائما من خلال تمجيد سلطة القهر والاستبداد والتسبيح بحمدها.
هذا النوع من الدول لا يعدو عن كونه مدارس للخيانة، وإن كان علم السياسة قد نأى بنفسه عن أن يجد اسما لها؛ فلا بأس للمرء أن يعرفها بالإضافة؛ فهي في حقيقة الأمر "دول خائنة". خائنة لرسالة الدولة ولرسالة السلطة. خائنة لكل المبادئ والقيم الإنسانية. خائنة للإنسان وكرامة الإنسان، ولجوهر الإنسان.
في الدول الخائنة يعلمون البشر أن كل حركة أو همسة أو صرخة خارج إطار الركوع والتمجيد والتسبيح بحمد السلطة تعد خيانة. هم يجعلون من الخيانة تهمة جاهزة لكل مواطن
في هذا النوع من الدول تختلط المفاهيم وتضطرب الرؤى، بل يصبح مفهوم الدولة ذاته ضبابيا ومشوشا، إذ لا يستطيع المواطن التفريق بين الدولة وبين السلطة المجسدة بشخصية الحاكم، وفي أحيان كثيرة يصعب على المواطن التمييز بين الحاكم والإله. هنا يصبح أي اعتراض على مشيئة السلطة الإلهية ضربا من ضروب الكفر والخيانة.
في الدول الخائنة يعلمون البشر أن كل حركة أو همسة أو صرخة خارج إطار الركوع والتمجيد والتسبيح بحمد السلطة تعد خيانة. هم يجعلون من الخيانة تهمة جاهزة لكل مواطن. وبالتالي عليه أن يثبت براءته منها من خلال خيانته لإنسانيته، ولشدة الخوف من هذه التهمة يخال للبعض أن مجرد صرخة استغاثة أو استنجاد للفرد حتى وهو تحت التعذيب يعد ضربا من ضروب الخيانة.
ويعد هذا أحد تكتيكات الحصار. إنه الحصار النفسي الذي يجعل الفرد مستسلما لقدره وحيدا في مواجهة ذلك الوحش المسمى "دولة"، أو "الدولة الخائنة" عندما يخطر له أن يتمرد. أحد السوريين عبر عن هذه الحالة من خلال قصة قصيرة جدا، وساخرة جدا، ومعبرة جدا، ومؤلمة جدا. من خلال منشور على "فيسبوك". هذا نصه:
رجل وزوجته يصطحبان ابنتهم الصبية في نزهة بين أحضان الطبيعة. يخرج لهم مجموعة من الشبان يقيدون الرجل وزوجته إلى جذع شجرة ويقتادون الفتاة بين الأحراش. التفتت الزوجة فشاهدت مجموعة من الرجال عن بعد. طلبت من زوجها أن يصرخ ويستنجد بهم. التفت زوجها إليهم فلاحظ أنهم غرباء فرفض أن يستنجد بهم؛ لأنهم غرباء!!! اليوم ابنتهم حامل في شهرها السابع.. تبا لكم. هكذا قال صاحب المنشور.
عندما تكون الأوطان معتقلات كبيرة يجرد فيها الإنسان من كرامته وإنسانيته، ويجبر أن يركع للجلاد ويسبح بحمده ويهتف بحياته ومجده، فتلك أوطان خائنة. دول خائنة. دول وقحة، تتناسى أفعالها المشينة والمهينة وتريد أن تحاسب الضحايا على ردود أفعالهم.