يروي أحد المعارضين السوريين القدماء أنه في أحد الأيام طُلب لفرع أمن الدولة بشكل مفاجئ، ولدى مثوله أمام رئيس الفرع اكتشف السبب، فقبل يوم أو يومين كانوا في اجتماع روتيني، وخلال الاجتماع – على غير العادة – تفوه رئيس الحزب الشيوعي ببعض الكلمات التي تحمل إطراء للولايات المتحدة، وعن هذا سأله رئيس الفرع. يقول صديقنا: قلت لرئيس الفرع ما دمتم تعلمون أن رئيس الفرع هو من تكلم هذا الكلام فلماذا أستدعى أنا؟! فأجابني: نعم نعلم، ولكن أنتم؛ لماذا لم تتصدون له؟ لماذا لم تسكتوه؟!
إذن، فالقضية تخوف من خلل قد يكون أصاب البرنامج أو أصاب العقل الجمعي لدى بعض السوريين. والعقل الجمعي كما عرفه "غوستاف لوبون" هو "الاستجابةُ غيرُ العقلانية لِمَا تردِّدُه الجماعةُ". ويكون له سطوة شبه مطلقة في المجتمعات المتخلفة والمجتمعات البدائية، ومما يعزز من سطوة هذا العقل – بلا شك – هي السلطة الممسكة بزمام الأمور عبر أدواتها، فرجالات السلطة بما لديهم من القدرة والنفوذ يستطيعون النفاذ إلى داخل العقل الجمعي والتلاعب به وتوجيهه نحو ما يصب في مصلحة بقاء سلطانهم وترسيخ ثقافة القطعان البشرية المسلوبة الإرادة والفاقدة للوعي والمُساقة – غالبا – لحتفها من دون علمها.
تتم عملية اغتصاب العقل عبر خطاب شعبوي يستثيره بشعارات براقة تعزف على وتر الانتماء الوطني والديني والعرقي والقومي، ويعمل هذا الخطاب على خلق أعداء مفترضين يتربصون الدوائر بالشعب والأمة، وبحضارة الأمة وتاريخها وثقافتها. وهؤلاء (الأعداء) يحيكون المؤامرات ليلا ونهارا لكي يسلبوا الشعب أو الأمة عزتها وكرامتها واستقلاليتها ومقدراتها وهويتها ... إلخ.
وهذا النوع من الخطاب لا بد أن يكون مرتكزا على بعض القصص والحكايا التي استقرت في عقول الجماهير كحقائق مطلقة لا تقبل الشك. وهذه القصص التي يتمحور الخطاب الشعبوي حولها وتنسج الجماهير أفكارها استنادا إليها غالبا ما تكون مختلقة.
ولكي لا يبقى الكلام في الإطار النظري يمكن استحضار بعض الأمثلة عن هذه القصص المختلقة، فعلى سبيل المثال: لا وجود لما يسمى بـ "تقرير كامبل-بنرمان" عن فلسطين وإسرائيل، ذلك التقرير الذي قيل إنه صدر عن مؤتمر بريطاني عُقد في الهند عام 1907 لاستعراض واقع ومستقبل الإمبراطورية البريطانية. وحسب هذا التقرير المزعوم؛ فالمشاركون في ذلك المؤتمر خلصوا إلى الكشف عن أهمية المنطقة العربية وعن خطورة وحدتها السياسية، ولذلك رأوا "من الضروري زرع جسم غريب في قلبها (إسرائيل) يمنع وحدتها في المستقبل".
تتم عملية اغتصاب العقل عبر خطاب شعبوي يستثيره بشعارات براقة تعزف على وتر الانتماء الوطني والديني والعرقي والقومي.
وحول هذه القصة نشر الباحث الفلسطيني المعروف أنيس صايغ مذكراته التي كشف فيها عن زيف هذا الادعاء بعد أن كان مؤمنا به في شبابه كما يقول.
وفي مثال ثان، يتحدث البعض عن الخرائط "الجيوسياسية" للمستشرق البريطاني "برنارد لويس" والتي يُزعم بأن "لويس" قدمها على شكل نصائح "مكيافيلية" إلى الإدارة الأميركية، بهدف بناء شرق أوسط وفق ترتيبات وقواعد جديدة، تقوم على معايير عرقية وإثنية مختلفة عن القديمة. رغم أنه لا وجود لمصادر تثبت هذه المزاعم، إلا أنه يتم الخلط غالبا بين هذا الادعاء وبين خارطة رسمها العقيد في الجيش الأميركي "رالف بيترز" كحل متخيل لمشكلات الشرق الأوسط إذ يقول: "الشرق الأوسط لديه مشكلات كثيرة منها الركود الثقافي وعدم المساواة الفاضحة والتطرف الديني المميت، لكن المشكلة الأكبر في فهم أسباب فشل المنطقة ليس الدين، وإنما الحدود الدولية البشعة".
وفي الواقع، من يقرأ ما كتبه العقيد رالف يكتشف أنه لا علاقة له بالتآمر، وأن أفكاره التي هي مجرد وجهة نظر لم يكترث بها أحد لعدم واقعيتها؛ فيها من التوحيد أكثر مما فيها من التقسيم.
العقل الجمعي المغتصب يعمل تلقائيا لصالح السلطة ويدافع عنها وعن أفكارها بشراسة من حيث لا يدري.
وفي توقيت أقرب من ذلك؛ قامت إحدى الجهات بتحديث وتغذية هذا النوع من الأفكار باختلاق نظرية جديدة سمتها "الفوضى الخلاقة"، تلك النظرية التي كتب حولها مئات المقالات، وربما رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه؛ لم يستطع باحث حتى يومنا هذا أن يعثر على مصدر يوثق تلفظ وزيرة الخارجية الأميركية "كونداليزا رايس" بهذه الكلمات.
وعلى هذا المنوال يمكن الحكم على باقي القصص المشابهة، بل إن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك بعض الكتب التي تعتبر مرجعية لهذا النوع من التفكير الخرافي الذي يميز العقل الجمعي في البلدان المتخلفة، فعلى سبيل المثال: رغم انفضاح أمر كتاب "برتوكولات حكماء صهيون" بأنه كتاب مزور ما زال كثير من المثقفين العرب يبنون أفكارهم حول ما جاء في هذا الكتاب من ترهات.
المشكلة مع هذا النوع من القصص وهذا النوع من الكتب أنها تخلق آلية من التفكير مضللة ومؤذية في غالب الأحيان. والمشكلة الأكبر – كما يروي أحد الذين ينفقون كثير من الوقت في إقناع الآخرين بزيف هذه الادعاءات – أن الذين يقتنعون تماما بأن هذه القصص مختلقة وأن هذا النوع من الكتب متهافت لا قيمة له؛ يحتفظون بآلية التفكير ذاتها. بمعنى آخر: اتخذت آلية التفكير هذه صفة الثبات والتجذر ولا يكفي إسقاط الركائز الأساسية التي بنيت عليها، فهؤلاء مع الزمن وجدوا – خلال الزمن – أدلة وبراهين من الواقع تثبت صحة قناعاتهم. ورغم أن هذه البراهين لا تعدو عن كونها أحداث أو أقوال مجتزأة أو منزوعة من سياقها؛ إلا أن تفنيدها واحدة واحدة يدخل المتحاورين في جديل عقيم لا ينتهي.
إذن، فالعقل الجمعي المغتصب يعمل تلقائيا لصالح السلطة ويدافع عنها وعن أفكارها بشراسة من حيث لا يدري؛ حتى وإن ظن المرء أنه معارض للسلطة، فمن ضحك أو سخر من قصة استدعاء صديقنا لفرع أمن الدولة لأنه لم يتصدى لمن تكلم خارج السياق العام لما يردده السوريون لا بد أنه أصبح يعلم فحوى الأمر؛ فالخطر كل الخطر في التفلَّت من قبضة العقل الجمعي الذي يعمل لصالح سلطات القهر سواء لدى المؤيدين أم المعارضين.