في معرض دفاعه عن سياسة الإدارة الأميركية في عهد الرئيس "ترامب"، ومن خلال مذكراته تحدث وزير الخارجية في تلك الإدارة "مايك بومبيو" عن قضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، ومما جاء في حديثه حول تلك القضية: "هذه الجريمة المروعة كانت شائنة وغير مقبولة ومروعة وحزينة وحقيرة وشريرة ووحشية وبالطبع غير قانونية". لكنه أضاف قائلا: "لكن ذلك لم يكن مفاجئا، ليس بالنسبة لي على أي حال. لقد شهدت ما يكفي في الشرق الأوسط لإدراك أن هذا النوع من القسوة كان أمرا روتينيا للغاية في هذا الجزء من العالم".
يتحدث كثيرون من المهتمين بالشأن العام بلغة الجزم عن تبرؤ الساسة من الأخلاق، بل يعتقد بعضهم أن السياسة بحد ذاتها نشاط غير أخلاقي، وللبرهان على هذه الفرضية يسوقون كثيرا من الأدلة التي تتخذ مادتها من سياسات الدول الغربية بالعموم، وهم عندما يضطرون لذكر بعض الجرائم والانتهاكات التي تقوم بها دول أخرى تراهم وفق أسلوب معتاد من المناورة الطريفة يعودون ليلصقون التهمة بالدول الغربية بأي شكل من الأشكال؛ على افتراض أنهم قادرون على منع تلك الانتهاكات ولم يفعلوا.
لا أحد يستطيع الجزم في تفسير تلك الظاهرة، أهي نتاج نظرة ثاقبة وعمق في التحليل؟ أم هي نتيجة لتوافر المادة وأسلوب خاص في المقاربة دأبت الآلة الإعلامية للأنظمة الاستبدادية وبعض الإيديولوجيات المتطرفة على توفيرهما للجميع؟ أم هي نتيجة أحقاد تاريخية ناتجة عن الدور الغربي المدمر في تشكيل وتطور الأوضاع على مستوى العالم بالعموم، وعلى مستوى الشرق الأوسط بشكل خاص؟
المواطن العادي مهما تدنى مستوى معارفه؛ يستطيع أن يتحدث – ربما – لساعات متواصلة عن انتهاكات الغرب
في مجمل الأحوال – ومهما كان السبب – تشكل تلك الظاهرة تحيزا واضحا لصالح الأنظمة الاستبدادية، إذ يتم إهمال الفضح والتشهير لانتهاكات تلك الأنظمة رغم أنها ذات سجل أكثر وحشية وظلما. وكان نتيجة ذلك أن المواطن العادي مهما تدنى مستوى معارفه؛ يستطيع أن يتحدث – ربما – لساعات متواصلة عن انتهاكات الغرب، فيبدأ من الحقبة الاستعمارية مرورا بالتمييز العنصري في أميركا وحروبها حول العالم ولا ينتهي عند تقاعس الغرب في دعم الثورة السورية وتراجع أوباما عن خطوطه الحمراء. في المقابل عندما يتعلق الأمر بانتقاد دولة من خارج الغرب يكتفي بشتيمة.
عن تقاعس "أوباما" في تنفيذ تهديده المرتبط باستخدام السلاح الكيميائي يقول أحد السوريين: لو أن "أوباما" نفذ تهديده وتسبب التدخل العسكري الأميركي بإسقاط النظام السوري سيسجل المعادون للغرب تلك العملية كجريمة جديدة في سجل الجرائم الأميركية التي لا تعد ولا تحصى. ثم أردف: رغم كل ما فعلته روسيا بنا مازال البعض لا يتمنى أن تهزم روسيا في أوكرانيا، ولولا ما فعلته روسيا بنا لوجدتنا مثل الآخرين متحمسين لنصر روسيا وهزيمة الغرب.
ليس الحديث هنا عن أسود وأبيض، أو ملائكة وشياطين؛ إنما هو عن سيئ وأشد سوءا. نعم: الشرق أشد سوءا من الغرب، فالساسة في الدول الغربية بما يعلنونه من أهداف كنشر الحضارة والديمقراطية والحرية حول العالم، وبما يسود في بلدانهم من حريات تسمح بوجود المؤسسات القانونية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني يصبحون مقيدين ببعض القيود الأخلاقية بغض النظر عن كونهم من ذوي الأخلاق أم لا. تلك القيود هي التي دفعت "بومبيو" لمحاولة تبرير موقفه، وهي التي أطاحت بـ "رامسفيلد" بعد فضيحة سجن أبو غريب. وتلك الحريات هي التي سمحت لبعض السوريين بفضح جرائم النظام السوري والتمهيد لاستصدار "قانون قيصر" و"قانون الكبتاغون". والأمثلة على ذلك لا تعد ولا تحصى لمن أراد أن يبحث عنها.
بكل تأكيد لن نشاهد مسؤولا غربيا يزور أو يستقبل أحد رموز النظام السوري، فالقضية هنا ليست مجرد قتل صحفي بطريقة بشعة، إنما هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولا يمكن للمسوغ الذي قدمه "بومبيو" أن يكون مقبولا تحت أي ظرف كان. أما في بقية دول العالم حيث يعتبر القمع الهمجي للمعارضين أمرا روتينيا؛ حيث يستطيع المرء إعداد قائمة طويلة بالجرائم التي ارتكبتها دول بحق مواطنيها. هنا في هذا الشطر من العالم حيث تنعدم القيود الأخلاقية؛ يذهب البعض لزيارة القتلة ويستقبلهم البعض الآخر بالأحضان.
حتى لو كان التطبيع بأوامر أميركية وليس مجرد ضوء أخضر لا يمكن تفسير بعض الاستقبالات التي تشبه استقبال الفاتحين، وبعض عبارات المديح والإطراء للقتلة
لا تصلح مقولة إن ما يحصل لم يكن ليحصل لولا الضوء الأخضر الأميركي لنقل المسؤولية الأخلاقية إلى الجانب الأميركي، فتلك المقولة تصلح للتحليل السياسي لتفيد بأن حركة التطبيع القائمة الآن تأتي في سياق توجه عالمي لإعادة تدوير النظام السوري. أما المسؤولية الأخلاقية فتقع على صاحبها، لأن الضوء الأخضر لا يعني سوى السماح لمتلهف للتطبيع بأن يطبع. بل حتى لو كان التطبيع بأوامر أميركية وليس مجرد ضوء أخضر لا يمكن تفسير بعض الاستقبالات التي تشبه استقبال الفاتحين، وبعض عبارات المديح والإطراء للقتلة التي أطلقها البعض أنها جاءت انصياعا للأوامر الأميركية، فتلك لها تفسير آخر.
في تراثنا العربي أسطورة اسمها "حرب البسوس"، ملخصها أن رجلا اسمه جساسا تجرأ على السؤدد والصلف والجبروت، فكان نصيبه أن أُعمل القتل بأهله وعشيرته، وشُردوا في أصقاع الأرض كمتسولين مجردين من عروبتهم. هكذا صاغ المخيال العربي مصير من يتجرأ على أسياده، فدعونا نراجع كل شيء حتى المفردات التي نستخدمها.