في عام 2021، أعلن الرئيس جو بايدن انتهاء المهمة القتالية في العراق، لكنه استبقى 2500 جندي أميركي هناك، إلى جانب 900 جندي في سوريا، وذلك ليكونوا على رأس عمليات التحالف الدولي الساعية للقضاء على تنظيم الدولة، والآن، خلال الأشهر الخمسة المتبقية له في السلطة، تتعاون إدارة بايدن مع الحكومة العراقية على تطبيق خطة تسعى للإعلان عن انتهاء هذه المهمة أيضاً، إلى جانب تحديد جدول زمني لإعادة الجنود الأميركيين إلى بلدهم، وهذا ما قد يتيح لبايدن أن يعلن عن إنهائه "لحرب أبدية" أخرى، كما سبق أن تبجح وقال عقب انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.
ولكن هنالك مشكلة: إذ على الرغم من رغبة بايدن في الإعلان عن "تنفيذ المهمة"، لما تنته تلك المهمة بعد، كما أن خطة المتابعة لم تكتمل هي أيضاً. وعلى الرغم من النية الحسنة، في حال وافق بايدن رسمياً على إنهاء مهمة محاربة تنظيم الدولة، فإنه قد يهيئ بذلك الساحة أمام ترد أكبر لأزمة الشرق الأوسط، أما عواقب كل ذلك فسيتحملها الرئيس الذي سيأتي من بعده.
موعد مرتقب وتأجيل بسبب "التطورات الراهنة"
طوال أشهر صرح مسؤولون عسكريون عراقيون وأميركيون عن مفاوضاتهم حول اتفاق سينهي وبشكل رسمي عملية العزم الصلب التي أطلقها التحالف الدولي الذي تتزعمه الولايات المتحدة بهدف القضاء على تنظيم الدولة في عام 2014، ومن المتوقع من هذه الاتفاقية أن تطالب بانسحاب كامل القوات الأميركية الموجودة في العراق في غضون عامين، بحسب ما كشفه عدد من المسؤولين.
بيد أن الإعلان عن الاتفاق الذي من المخطط الكشف عنه خلال هذا الشهر، قد تأخر اليوم بسبب "التطورات الراهنة"، بحسب ما أعلنه وزير الخارجية العراقي خلال الأسبوع الماضي، وشملت تلك التطورات الهجمات التي شنتها الميليشيات الممولة إيرانياً على القوات الأميركية في العراق، بالإضافة إلى تصاعد التوتر مع إيران عقب حادثة اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية في طهران خلال الشهر الفائت.
ثم إن الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية، حتى في غضون عامين، لابد أن يعتبر مؤشراً على تخلي الولايات المتحدة عن المنطقة، في الوقت الذي ينتظر الحلفاء من واشنطن أن تزيد من حالة الردع ضد إيران. والأسوأ من كل ذلك، هو أن الاتفاقية من شأنها إضعاف قدرة الدول البالغ عددها 77 دولة والتي شاركت في التحالف على تنسيق الجهود ضد تنظيم الدولة في الوقت الذي يستعد هذا التنظيم للعودة من جديد.
من جهة أخرى، تسعى القوات الأميركية لاحتواء التنظيم الإرهابي حال عودته، فقد أعلن تنظيم الدولة مسؤوليته عن 153 هجمة نفذت في العراق وسوريا خلال هذا العام وحده، بحسب ما نقلته صحيفة وول ستريت جورنال. أما على الساحة الدولية، فقد أعلنت فصائل تنظيم الدولة مسؤوليتها عن هجمات إرهابية نفذت في إيران وروسيا خلال هذا العام، ناهيك عن تخطيطها لتنفيذ هجوم على حفل موسيقي للفنانة تايلور سويفت في فيينا.
اعتماد متبادل وفراغ محتمل
تعتمد القوات الكردية التي تحارب تنظيم الدولة في شمال شرقي سوريا على الدعم الجوي الأميركي وعلى قوات العمليات الخاصة الأميركية، وتعتمد القوات الأميركية الموجودة في سوريا على القوات الأميركية الموجودة في العراق وذلك فيما يتعلق بالمعلومات الاستخبارية والإمدادات، أي إن رحيل تلك القوات لابد أن يتسبب بفراغ بوسع كل من تنظيم الدولة وأذرع إيران ملؤه.
غير أن احتواء إيران لا يعتبر تقنياً جزءاً من عملية العزم الصلب، لكن وجود القوات الأميركية في العراق وسوريا يعتبر أمراً حاسماً ومهماً لتحقيق هذا الهدف. وعلى الرغم من أن القيادة العراقية التي يرأسها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تطالب بشكل علني بجلاء القوات الأميركية، يخشى كثير من المسؤولين العراقيين في سرهم من أن هذه الخطوة التي قد تؤدي إلى التخلي عن العراق لصالح السيطرة الإيرانية.
ترتيبات أمنية لا انسحاب كامل
والمدة الزمنية المحددة بعامين ما بين الإعلان عن انتهاء مهمة محاربة تنظيم الدولة وإعادة القوات إلى الوطن تهدف إلى منح الجانبين ما يكفي من الوقت لتعديل المخطط في حال اشتداد التهديدات أو عدم قدرة قوات الأمن العراقية على تولي مسؤوليات محاربة الإرهاب في الوقت المناسب، غير أن هذا الغموض المتعمد تسبب بخلق حالة تشوش وارتباك كبيرة، إذ على سبيل المثال، أعلن الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الأميركية خلال الأسبوع الماضي بأن الولايات المتحدة لم تدخل في مفاوضات على سحب القوات الأميركية الموجودة في العراق، بل من أجل "الانتقال" لترتيبات أمنية يقوم بها كلا الطرفين. فيما ذكر مسؤولون بأن الاتفاق الأمني الثنائي الذي عقد عقب ذلك بين العراق والولايات المتحدة قد يتمخض في نهايته عن بقاء معظم القوات الأميركية في العراق وذلك لاستمرار تلك القوات بمحاربة تنظيم الدولة، لأن ذلك من شأنه نظرياً الحد من خطر حل التحالف الذي تأسس لمحاربة تنظيم الدولة.
تاريخ التفاوض الأميركي على الانسحاب
ولكن لا بد من تفاوض رئيس أميركا المقبل على اتفاقية المتابعة، وفي حال فشل هذه المفاوضات، قد يتعين على القوات الأميركية الانسحاب من هناك بشكل كامل، وهذا ما حدث في عام 2008 بعد توقيع الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش على اتفاق يقضي بسحب كامل القوات الأميركية من العراق، بعد ذلك حاول الرئيس باراك أوباما أن يتفاوض على اتفاق لمتابعة الأمور بهدف إبقاء بعض الجنود هناك، ولكنه فشل في ذلك. وبعد مرور ثلاث سنوات على ذلك، أوقف أوباما عملية إرسال آلاف الجنود الأميركيين إلى العراق وذلك عند استيلاء تنظيم الدولة على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية.
وفي عام 2021، وقع على عاتق بايدن نفسه أمر تنفيذ اتفاقية الانسحاب من أفغانستان التي وقعها سلفه، أي دونالد ترامب. وعندما تم الانسحاب بصورة سيئة، اكتشف بايدن بأنه من العبث القول بإن هذه الخطة لم تكن فكرته، والآن، يهيئ هذا الرجل خليفته للوقوع في ورطة مماثلة تتمثل إما بالعدول عن خطة الانسحاب التي وضعها بايدن والتعرض لمعاناة على المستوى السياسي، أو السير على نهج تلك الخطة، على الرغم من وجود خطر يتمثل بوقوع كارثة أمنية.
وتعقيباً على ذلك يقول كينيث بولاك، وهو عضو رفيع في معهد المشروع الأميركي: "يعتبر بايدن ذلك جزءاً من وديعته، إذ سيغدو قادراً على أن يقول بإنه الرئيس الذي أنهى هذه الحروب الأبدية، وقد تعتقد كامالا هاريس بأن ذلك قد يسمح لها بإلقاء اللوم على جو بايدن فيما بعد. أما على الصعيد السياسي، فإن ذلك يبدو منطقياً بالنسبة لهم جميعاً، ولكن في الواقع، قد يصبح الوضع أسوأ مما تخيلوه".
لا أحد يرغب بأن يرى القوات الأميركية في العراق وسوريا إلى الأبد، ولكن الإعلان عن انتهاء المهمة لن ينهيها، لأن إنهاء "الحروب الأبدية" من السهل قوله ومن الصعب تحقيقه. وفي حال تخلت الولايات المتحدة عن التزامها بأمن الشرق الأوسط الآن، فإن ذلك قد يلقنها درساً لن تنساه مرة أخرى.
المصدر: The Washington Post