icon
التغطية الحية

أهمية متجددة لتوكيد يوهان هردر على الخصوصيات الثقافية

2024.06.14 | 14:31 دمشق

dgd
+A
حجم الخط
-A

"مثل هردر، أعتبر العالمية فارغة. لا يمكن للناس أن يتطوروا إلا إذا كانوا ينتمون إلى ثقافة، وحتى لو تمردوا عليها فإنهم ما زالوا ينتمون إلى تيار من التقاليد. يمكن إنشاء تيارات جديدة، ولكنها في النهاية مستمدة من نهر واحد، تقليد مركزي أساسي. ولكن إذا جفت الجداول، كما هو الحال حيث لا يكون الرجال والنساء نتاجاً لثقافة ما، وحيث لا يشعرون بأنهم أقرب إلى بعض الناس أكثر من الآخرين، وحيث لا توجد لغة أصلية، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى جفاف هائل لكل ما هو إنساني".

بهذه الكلمات يزكّي المفكر الإنجليزي وأحد أعلام التعددية الثقافية cultural pluralism في النظرية السياسية المعاصرة أشعيا برلين، عمل المؤرخ والفيلسوف الرومانسي الألماني المبكر واسع التأثير يوهان هردر (1744 - 1803)، كأحد الفلاسفة النوعيين المنسيين، والذي تنبه إلى ما لم يتنبه إليه الآخرون، وهو أمر في غاية البساطة والأساسية، أي فكرة الانتماء، في بعديها الجغرافي والثقافي. "لم يتحدث هردر عن العرق وروابط الدم، لم يتحدث إلا عن الأرض واللغة والذكريات المشتركة والعادات. نقطته الأساسية هي أن الشعور بالوحدة ليس مجرد غياب الآخرين، بل العيش بين أناس لا يفهمون ما تقوله، لأن التفاهم يتطلب الانتماء إلى مجتمع يكون فيه التواصل سهلاً وغريزياً تقريباً (..). أن تكون إنساناً يعني أن تكون قادراً على الشعور وكأنك في بيتك في مكان ما، مع نوعك الخاص".

وفي المقابلة التي نشرتها مجلة نيويورك تايمز تحت عنوان مفهومان للقومية: مقابلة مع أشعيا برلين، ويعود تاريخها إلى العام 1991، يقدم "برلين" مقاربةً ما تزال راهنةً ضمن صراعات العالم السياسية. فإجابةً على السؤال حول عودة الصراعات القومية بين دول الاتحاد السوفييتي بعيد تفككه، يقول: "القومية لم تبعث من جديد لأنها لم تمت البتة، ولا العرْقية (العنصرية)، إنها أقوى الحركات في العالم اليوم، وتتقاطع مع العديد من الأنظمة الاجتماعية"، مضيفاً أن الحركات اليسارية، الحاملةَ لقيم العالمية والتقدم "ما كانت لتنجح في آسيا أو أفريقيا، أو الهند الصينية أو العالم العربي، لولا تماشيها مع المشاعر القومية".

ظهرت فكرة وجود خصائص كونية أو عالمية universal للإنسان، في العصر الذهبي للمملكة الفرنسية، منذ عهد لويس الرابع عشر (1643 - 1715)، محاكاةً لنموذج العلوم الطبيعية التي تبحث في القوانين العلمية الكونية، الواحدة في كل مكان وزمان. إنسان عالمي سرعان ما عبر عنه الثوار الجمهوريون الفرنسيون عام 1789 بإطلاقهم (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن)، الذي سيتحول إلى وثيقة قانونية ملزمة للدول بعد الحرب العالمية الثانية، وتأسيس منظمة الأمم المتحدة.

كما يبين "برلين"، كان مفهوم الإنسان العالمي تعبيراً عن خصوصية وحضارة المملكة الفرنسية، وحراكها الثقافي وتقاليد أرستقراطيتها: "كانت العالمية في القرن الثامن عشر هي عقيدة الدولة العليا، فرنسا، وقد حاول الجميع محاكاة ثقافتها المتألقة". كان الآخَر الأدنى إلى متناوَل هذه الاستعلائية هم الألمان، الذين كانوا مجتمعاً منقسماً وزراعياً، حيث تبلورت "القومية العدوانية الألمانية" ونشأ الفلاسفة الألمان ومفهومهم الشهير للروح Geist في مناخ نشرته الحركة التقوية pietism من رد الفعل، مستعيضين عن التنوير الفرنسي، بنسخة محلية من النزعة الإنسانية Humanität والتنوير المضاد ستسمى الرومانطيقية الألمانية، علاقة مباشرة مع الواقع الروحي والأبعاد الأكثر عمقاً وخصوصية من الذات.

ليس أحد كالسوريين، في نفورهم المحق من المنطوق الأيديولوجي البعثي المسؤوم، قادراً على تبيُّن المضمون الغث للحداثة المُمْلاة والتدخل الأيديولوجي في الاجتماع الوطني، كما حدس به فلاسفة من طينة هردر، وتهافت الموقف السلبي من التراث، الموروث من عصر التنوير الأوروبي والتقاليد الجمهورية الكلاسيكية.

وبينما يمكن القول، بخاصّة اليوم، إنه لا كثير تغير منذ زمن المقابلة المذكورة، فثمة ذلك الإشكال بالتحديد، والذي يستمر مستعصياً على التقادم، فـ"من اليونانيين والكتاب المقدس، إلى العصور الوسطى، إلى عصر النهضة وعصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر، كانت الوحدة هي الفضيلة العظيمة. الحقيقة واحدة والخطأ كثير. اليوم، التنوع، والتعددية (التي تنطوي على إمكانية وجود العديد من المثل العليا غير المتوافقة بالضرورة)، قبول التعددية في أساليب الحياة، وإمكانية وجود احترام متبادل بين وجهات نظر مختلفة وغير قابلة للدمج، هي فضائل نحتاجها. (...) إن إشكال المرحلة يتمثل في صعود سؤال تقرير المصير الثقافي، من دون وجود إطار سياسي لاستيعابه".


للرسام السويسري “بول كلي” Paul Klee لوحة صغيرة بعنوان “الملاك الجديد” (أنجلوس نوبوس Angelus Novus)، اشتهرت أيضاً بـ “ملاك التاريخ”، رسمها عام 1920.

 

من هو يوهان هردر؟

كان يوهان غوتفريد هيردر مفكراً ورجل دين ألمانياً، عُرف بمساهماته في فقه اللغة المقارن وعلم الجمال وفلسفة التاريخ، وجمع القصائد والغناء الشعبي الألماني، وكان أول من ربط بين الشعب الألماني والثقافة القوطية gothic، دعا إلى احترام التطور الذاتي لكل ثقافة بما هو عملية طبيعية مرعيّة بالعناية الإلهية providence.

لقد حدّد فكر الأنوار غاية التاريخ في "أفق بعيد يصبو إليه الإنسان بالتقدم"، بينما اعتبر هردر غاية التاريخ "هنا والآن، في إقليم وتراث فرد ومجموعة ثقافية"، غاية "لا نتوجه نحوها بل نتوجه بها (..) في معيّةٍ تصاحب الإنسان في التشكيلات النظرية والتأسيسات الهيكلية (القانون، الدولة، السياسة، الدين، الفلسفة) وليس في غائية يتوجه نحوها الإنسان، ولا يجد في الختام سوى هياكل تُفوقه وأبنيةٍ تحتويه، ووقائعَ تتجاوزه".

في نظر هردر فإن وجود الأمم (المجموعات الثقافية) ما هو "سوى حالة جادة وجاهدة في تقويم العزائم وتلطيف القرائح، وعلى فلسفة التاريخ أن تستقرئ هذه القوى النشطة وترى كيف تتكون وتتكثف، ونحو أي وجهة تصبو في حركة ليست فوريةً تنتهي بصوغ التشكيلات الاجتماعية، بل تقتضي الزمان كله للاختمار، والديمومة للنضج (....) ينبغي لتربية الإنسان أن تكون طويلة لأن لديه الكثير من الأمور ليتعلمها"، ولاعتبارات هي هذه "رفض أن تتوسع خصوصية ما على حساب خصوصيات أخرى".

تطور فكر يوهان هردر بالسجال مع المفهوم الأنواري للعقل "الجاف والبارد"، العقل العلمي الذي "كان مفكرو الأنوار ينظرون إليه كشيء يشبه الإله في السلة deus ex machina (تعبير لاتيني يسمي حلاً درامياً في المسرحيات القديمة، حيث تنزل قوة خارقة لتحل تعقيدات الحبكة)، يكفي أن يعلن نهاية اللعبة ليسدل الستار وتتوقف المأساة، وتتصالح الضمائر". في مقابل هذا المفهوم، قدّم هردر مفهوماً للعقل يسميه الباحث الجزائري محمد شوقي الزين "العقل المضاد، العقل المتصالح مع تراثه وتاريخه (..) لا يقول هردر إن التراث يوجّه الإنسان بل إن الإنسان يتوجه بالتراث"، في سياق التجربة الفردية، مشدداً على دور الفرد في التفاعل مع موروثه كجزء من العملية الطبيعية لتطور ثقافة ما، ومشبهاً في أحد نصوصه توجُّه الإنسان بتراثه، باستيعابه للأغذية التي تمنحه الطاقة للحياة، حيث تنطوي العمليتان على حدٍّ سواء، على الانتقاء والتحويل، كما أكّد على تواصل الثقافات باللقاء والترجمة، لإثراء الحضارة في إطار عالمية التنوع، باعتبار الخصوصيات الثقافية أمراً غير قابل للاختزال، وأدان توجه الحضارة الغربية للهيمنة: "أيها البشر من كل بقاع الأرض، أنتم الذين عشتم قروناً، لم تعيشوا وتُحيوا الأرض برفاتكم كي تكون أجيالكم القادمة مدينة في سعادتها للحضارة الأوروبية. إذا كان ثمة سعادة على وجه الأرض، فهي في كل كائن حي، وكل إنسان يحمل في ذاته تبعاً لمعيار سعادته والشكلِ الذي وُجد عليه، المجال الوحيد الذي يمكنه أن يكون فيه سعيداً، لهذا استوفت الطبيعة في الأرض كل الأشكال البشرية الممكنة".

وربما ليس أحد كالسوريين، في نفورهم المحق من المنطوق الأيديولوجي البعثي المسؤوم، قادراً على تبيُّن المضمون الغث للحداثة المُمْلاة والتدخل الأيديولوجي في الاجتماع الوطني، كما حدس به فلاسفة من طينة هردر، وتهافت الموقف السلبي من التراث، الموروث من عصر التنوير الأوروبي والتقاليد الجمهورية الكلاسيكية، "تقدمية" و"علمانية" وراديكاليةٌ حداثيةٌ خبِر السوريون مآلاتِها محمولةً على الطائفية السياسية الممنهجة، والعوالم السفلية للتعذيب، واستحلال المجازر ومحو المدائن والقرى بالبراميل المتفجرة وراجمات الصواريخ، إلى أن صار ممكناً القول إن وجه سوريا اليوم، يشبه (الملاك) في لوحة الفنان السويسري بول كلي. لوحةٌ ألهمت المؤرخ فالتر بنيامين نقده للمدرسة التاريخانية، التي فكّرت في التاريخ كسردية خطية أو تعاقبية وذاتِ معنى، كما ألهمتْه نقده لمركزية فكرة «التقدم»، كـ"فكرة مؤسِّسة لتماهي أجيال مختلفة من المنتصِرين مع السرديات التاريخية، وسند لشرعية تلك السرديات من وجهة نظر المنتصرين الجدد، حيث أي كارثة ومظلومية لها ما يبررها باسم الضرورة التاريخية".

في اللوحة يظهر الملاك "مفرود الجناحين وعلى وجهه علامات الذعر، في مواجهة عاصفة عاتية تطيح به، يحاول في مواجهتها التوقف لالتقاط أنفاسه وتأمل الحطام، ولكن شدة العاصفة تدفعه بلا توقف نحو مستقبل يوليه ظهره، بينما تنمو كومة الحطام أمامه صوب السماء، هذه العاصفة التي نسميها التقدم"، وحيث يستخلص بنيامين أن التأريخ الثوري عليه أن يكون "تدوين أحداث وتسجيلاً لأدق تفاصيل الحياة اليومية التي مصيرها التجاهل، لأنها لا ترقى إلى مصاف التاريخ، لمساءلة السردية التاريخية الرسمية، وزعزعة التراتب الزمني الخطي وتضفيره في زمانية مغايرة".

يفيدنا هردر اليوم في إظهار التواضع أمام حكمة الأقدمين، المخبوءة في كلام الشعب وثقافته، ليس بدون الحس النقدي، لأن تراث الشعوب مخزن حكمتها وحقيقتها الخاصة، التي تحظى بتطورها الخاص من خلال تفاعل الفرد بعقل منفتح ومستنير، وفي فهم كيف أن اقتلاع الإنسان من موطنه كما من سياقه الثقافي، يكاد يكون أصلاً للشرور، وبالمقابل كيف أنه فقط في إطار التصالح مع الذات، يستقيم الوصول إلى بُعد العالمية، التي تبقى بدون أساسها الذاتي والمحلي، في أحسن الحالات تقليداً ثقافياً محدداً.

 

(الاقتباسات عن فلسفة يوهان هردر من دراسة بعنوان "فلسفة التاريخ وتكوين البشرية عند يوهان هردر، من نظام المعرفة إلى نظام الحقيقة"، محمد شوقي الزين، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث).