هزت عملية مدرسة المدفعية النظام لأسباب عديدة؛ أولها أنها كانت إيذاناً بتصعيد الصراع الذي أطلقته «الطليعة المقاتلة...» قبل سنوات بعد أن اقتصر على الاغتيالات، وثانيها أنها استهدفت علويين بشكل انتقائي معلن، وثالثها أنها حصلت في الجيش على يد ضابط وفي حق طلاب ضباط.
لم يكن للنقيب إبراهيم اليوسف سجل تنظيمي في جماعة الإخوان المسلمين، ولم ينتسب سوى إلى حزب البعث بحكم الاضطرار، لكن رفيق نشأته، عدنان عقلة، استطاع اجتذابه إلى «الطليعة» التي بدا أنها قادرة على أن تحقق للضابط الشاب فرصة الثأر من هامشية موقعه في الخدمة العسكرية، ومن التعرض المتكرر للمساءلة الأمنية بسبب أصوله السنّية وميوله المحافظة.
بالنظر إلى هذا النموذج، وبأخذ الرضّ الطائفي الذي أحدثته المجزرة في الاعتبار، بدا للكثيرين في الجيش والأمن أنهم محاطون بشبح اليوسف وأمثاله أو مشاريع عنه. ومن جهة أخرى أدى زج الجيش في المعركة ودخوله إلى المدن الساخنة إلى نشوء حالة من التناقض في نفوس عدد من الضباط السنّة الذين كان عليهم أن يختاروا، عملياً ودموياً، بين الأهل وبين الولاء للنظام والالتزام بالأمر العسكري.
قبل ذلك كانت موجات من التسريح قد تكفلت بتطهير الجيش من ضباط إسلاميين عاملين منذ الستينات. في حين قضى بعض المنتسبين، سراً، إلى الإخوان المسلمين، خدمتهم الإلزامية كضباط مجندين، وكذلك بعض صف الضباط. لكن المدة الإشكالية بين 1979-1981 شهدت عدداً يصعب حصره من المفاتحات أو جلسات التقارب التي جرت بين ضباط من خلفيات مدينية محافظة وبين أقارب أو أصدقاء لهم هدفوا إلى كسب ولائهم للتيار الإسلامي الذي بدا وقتئذ، لبعض البيئات السورية، محقاً وقريباً من الانتصار.
كان على نتائج التقويم أن تكون حازمة فلا تفلت عدواً، ودقيقة فلا تؤدي إلى تطهير طائفي مستحيل تحت تأثير التقارير الكيدية والمذعورة التي تزاحمت على مكاتب الأمن
لم يتح الوقت لأن تنفتح قنوات الاتصال هذه على بعضها لتشكل جناحاً عسكرياً موحداً لكنها بذرت خلايا نائمة أو مشاريع خلايا، ربما ضمت، بشكلها المهلهل هذا، مئات الأشخاص في الجيش. فوصلت رائحتها إلى حافظ الأسد الذي كلّف بإجراء دراسات عن الضباط السنّة الذين لا يعرف عنهم بدرجة كافية. وكان على نتائج التقويم أن تكون حازمة فلا تفلت عدواً، ودقيقة فلا تؤدي إلى تطهير طائفي مستحيل تحت تأثير التقارير الكيدية والمذعورة التي تزاحمت على مكاتب الأمن. وأثناء ذلك وُضع الضباط المشتبه فيهم تحت رقابة مشددة أو في حالة شلل عملي إذا كانوا في وحدات فعالة.
على الضفة الأخرى كانت أجنحة الإخوان الثلاثة؛ «الطليعة المقاتلة» و«التنظيم العام» و«جماعة عصام العطار» قد اتفقت على توحيد جهودها في «قيادة الوفاق» عام 1981، وأخذت تتردد في أجوائها مفردة «الحسم» الذي كان يتطلب استنفار كل الطاقات. وهنا كانت لدى الدمشقي محمد عيد البغا، أحد قادة الوفاق من جناح العطار، مفاجأة صغيرة، فقد احتفظت الجماعة، عبر السنوات الصعبة، بمجموعة من الضباط الذين ظلوا مخفيين عن معظم الأعضاء. ومن جهته كان التنظيم العام قد باشر في استقطاب مجموعة أخرى. ونتيجة الخطورة البالغة لملفات كهذه لم تتضح أحجام الكتلتين ومدى فعاليتهما. فكلفت قيادة الوفاق وسيطاً أثيراً لديها كان يُعرف بالاسم الحركي «رائد»، هو خالد الشامي، بالتنسيق بين المجموعتين، وبينهما وبين القيادة في الخارج ومع قيادة الداخل، لتحديد الاحتياجات والإعداد لساعة الصفر.
كان الشامي مهندساً ميكانيكياً حموياً في الأربعين يقيم في دمشق ويعمل وكيلاً لإحدى شركات المصاعد الألمانية. لم يكن معروفاً على نطاق واسع بين قواعد الحراك الإسلامي نتيجة علاقته التنظيمية المتقطعة ونمط حياته الحديث وصلاته بعدد من المسؤولين في النظام. ورغم أنه كان في موقع الرجل الذي يجب أن يعرف إلا أن تعدد مراكز القوى، وإصرار كل منها على السرية والإيحاء بأكبر مما يملك، دفعه إلى الاعتماد على الاستنتاج لتقدير قوة الرجال الذين كان يتعامل معهم. ومن داخل البيت استطاع أن يرى أن كل مجموعة تظن أن القوة الفعلية ستأتيها من مؤازرة سواها. ورغم أن الضباط رفضوا إطلاعه على أي اسم ممن يوالونهم ومواقعهم إلا أنه قدّر، بعقل راجح، أن المجموعات صغيرة وغير فاعلة، فاعتذر عن متابعة المهمة.
كلفت القيادة مدنياً حموياً آخر بالملف، هو هيثم قنباز، وتم الحديث عن تأسيس «مجلس عسكري» لا يعرف أحد في القيادة أو خارجها وزنه بالضبط، لكنه أعطى أملاً لتنظيم «الطليعة» الذي كان مسلحو الداخل قد تجمعوا فيه، وأرِز إلى حماة بعد أن ضُرب في بقية المناطق.
صارت قيادة «المجلس العسكري» في يد العميد الحموي تيسير لطفي، الضابط في هيئة العمليات برئاسة الأركان المحسوب حديثاً على التنظيم العام دون سابقة إخوانية. وكان الرجل الثاني فيه هو العميد صلاح حلاوة، الدمشقي من حي الميدان من جماعة العطار، وقائد الفوج 65 مدفعية ميدان بالقطيفة بريف دمشق. وعُرف منه لاحقاً العميد نذير السقا، الدمشقي صهر الشيخ فؤاد شميس، وعدد من الطيارين؛ كالمقدم بشار العشي ورفيق الحمامي ومحمود كيكي.
أصرّ الضباط على التحرك خلال عام 1981 بسبب الشبهات التي أخذت تحوم حولهم والتي قد تؤدي إلى تسريحهم في نشرة تنقلات الجيش التي ستصدر في مطلع سنة 1982، إن لم يعتقلوا قبل ذلك. وطلبوا من قيادة الخارج دعمهم بخمسة آلاف مقاتل، على الأقل، من الذين أصبحوا خارج الحدود وتهريبهم إلى داخل البلاد، وبعدة آلاف من بنادق الكلاشنكوف، وبألف قذيفة RPG، وبتمويل مالي.
لم يكن في الخارج سوى بضع مئات من المقاتلين شبه الجاهزين، وحتى في حال الاستنفار الشامل وإعادة التدريب لم يكن العدد ليصل إلى ما يطلبه الضباط، ولم يكن الوقت كافياً. فاتجه «المجلس العسكري» إلى التنسيق مع قيادة «الطليعة» في حماة والعمل بمن حضر و«التوكل على الله».
كانت «خطة» التحرك بسيطة. فوفق معلومات هؤلاء الضباط كانت اللجنة المركزية لحزب البعث ستعقد اجتماعاً في كانون الثاني 1982، فخططوا لقصف المقر، الذي يتوقع أن يكون حافظ الأسد وشقيقه رفعت وأركان النظام فيه، بالطيران، وكذلك قصف القصر الجمهوري ومعسكرات «سرايا الدفاع»، بالتوازي مع أن يكون ضباط القوى البرية منهم قد وحّدوا مناوباتهم في ذلك اليوم فيحركوا قطعاتهم للسيطرة على الأركان وعلى الفرق العسكرية، وفي الوقت نفسه تخرج قوات «الطليعة» إلى الشارع.
في الصباح الثاني من 1982، بعد أن اطمأنوا إلى أن التسريح لم يطلهم، وقبل ثلاثة أيام من تحركهم المزمع، اعتقل الضباط المعنيون في وقت واحد، تاركين «الطليعة» تواجه مصيرها في مجزرة حماة الشهيرة التي بدأت بعد شهر.
بعد أن ألقي القبض على «المجلس العسكري» تبين أنه يضم نحو عشرين شخصاً فقط، من الصعب أن ينفذوا المهمة التي أناطوها بأنفسهم. لأشهر قليلة حققت شعبة المخابرات مع ضباط القوى البرية منهم وإدارة المخابرات الجوية مع الطيارين. وقيل إن حافظ الأسد أوقف تنفيذ حكم الإعدام في حقهم لأن بعضهم كان ممن نال وسام البطولة في حرب تشرين 1973، وبالفعل يمكن العثور على سير متميزة لهؤلاء الطيارين في تاريخ سلاح الجو السوري حتى الآن.
كانت الأخطاء كثيرة لكن القاتل منها هو أن صلاح حلاوة أعلم زميله العميد أحمد عبد النبي بالمحاولة الانقلابية محاولاً ضمه إليها
قضى الضباط مدة حكمهم في سجن المزة العسكري حتى آب 2000 قبيل إغلاقه فنقلوا إلى سجن صيدنايا، وأفرج عنهم في كانون الثاني 2004، في حين حوّل بعض أبناء «الدعوى» الآخرين من المزة إلى تدمر فإلى صيدنايا كذلك.
كانت الأخطاء كثيرة لكن القاتل منها هو أن صلاح حلاوة أعلم زميله العميد أحمد عبد النبي بالمحاولة الانقلابية محاولاً ضمه إليها. من الصعب أن نفهم سبب ذلك بما أن عبد النبي ضابط مخلص للنظام كان محل ثقة قائده شفيق فياض في الفرقة الثالثة التي كان فياض رئيسها وعبد النبي رئيس فرع عملياتها. وأثناء تدخل الفرقة لقمع التمرد الإسلامي في تلك السنوات أدى عبد النبي دوره، المكتبي في رسم الخرائط والدراسات، بكل انضباط دون نأمة تذمر.
ربما يكون السبب الوحيد لهذا التورط هو نظر حلاوة إلى عبد النبي بوصفه «سنّياً من القصير» وهو تقدير ثبت خطؤه حين بادر أبو عبيدة إلى الطلب من فياض تأمين لقاء عاجل مع «القائد العام». أفرغ العميد جعبته عند حافظ الأسد الذي أمره بالمتابعة ومعرفة كل أعضاء الشبكة وهو ما تم خلال شهر.
بعد انكشاف دور عبد النبي كلفه الأسد بإدارة الكلية الحربية التي سكن داخلها في شبه قلعة خوفاً عليه من الانتقام. بعد ذلك عيّنه قائداً للفرقة الخامسة، فالفيلق الأول، ثم نائباً لوزير الدفاع لشؤون التصنيع. حتى مات بعد أن جذبته ميول رفاعية لا يبدو أنها شكلت عاملاً كافياً ليحسّ بالندم.