عاشت سوريا حرباً امتدت لـ11 عاماً، واتهم فيها رئيس النظام في البلاد، بشار الأسد، بارتكاب جرائم مروعة ضد شعبه، لكنه بقي في سدة الحكم حتى اليوم بمساعدة حليفه القوي فلاديمير بوتين، بالرغم من أن بعض المناطق في شمالي سوريا ما تزال تحت سيطرة الثوار. ولكن حتى في المناطق التي يسودها سلام هش، ضعفت الآمال بإعادة بناء البلد والانطلاق فيه من جديد.
تسبب النزاع الذي امتد لعقد من الزمان بتدمير اقتصاد البلاد وكل قطاعات سوق العمل الأخرى، فأصبح نحو 80 في المئة من السكان يعيشون تحت خط الفقر المتعارف عليه دولياً (أي يعيشون على نحو 1.66 يورو باليوم)، ويعتبر هذا مقياساً للفقر المدقع الذي لا يمكن للناس الذين يعيشون تحته أن يلبوا احتياجاتهم الأساسية.
وبحسب آخر التقديرات التي أجراها البنك الدولي، فقد خسرت سوريا أكثر من 583 ألف وظيفة عمل بين عامي 2011-2017، حيث تضرر كل من القطاعين العام والخاص بشكل كبير بسبب الهجرة والنزوح القسريين اللذين طالا نصف الشعب السوري، وبسبب تدمير البنية التحتية والانهيار الكامل للقطاع الصحي وغيره من الخدمات الأساسية في سوريا. وأسهمت كل تلك العوامل في انهيار الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي، ما أدى إلى زيادة مرهقة في تكاليف المعيشة.
أما السوريون الذين مايزال بوسعهم الاستثمار في الاقتصاد فقد استعانوا بكل مدخراتهم لإرسال أولادهم إلى أوروبا أو إلى دول عربية أخرى من أجل الدراسة أو العمل هناك. في حين أن من بقي وبذل مجهوداً كبيراً ليتخرج من أرقى الجامعات في سوريا، والتي تشمل الطب والهندسة والصيدلية، فبالكاد لديهم ما يكفي ليعيلوا أنفسهم وعائلاتهم.
وكمثال على هؤلاء نذكر الدكتورة سلافة اليوسف، 29 عاماً، مجازة باختصاص أمراض الجهاز الهضمي من جامعة تشرين باللاذقية، إذ خلال سنوات تخصصها وتدريبها الخمس، كانت تحصل على راتب لا يتجاوز 10 يوروهات بالشهر، من دون أي تعويض عن ساعات العمل الإضافية أو تغطية لتكاليف المواصلات.
ولذلك كان من الصعب عليها أن تصرف على نفسها مع راتب كهذا، في زمن أضحى حتى الطعام فيه شيئاً لا يستطيع المرء تحمل نفقاته. فقد أصبح ثمن الكيلو الواحد من لحم الضأن يعادل 7 يورو تقريباً في السوق السورية اليوم، أما كيلو الجبن أو السكر أو الملح أو الحبوب فيعادل 4.4 يورو، ولتر واحد من الزيت النباتي يعادل 1.75 يورو. أي بمعنى أصح، لا تستطيع الدكتورة سلافة أن تطعم نفسها بشكل جيد إذا اعتمدت على راتبها وحده.
والآن أصبحت الدكتورة سلافة بلا وظيفة، فصارت تعتمد على أشقائها في مساعدتها بتكاليف الحياة اليومية، بالإضافة إلى قيامها ببعض الأعمال الحرة في مجال الترجمة بين الفينة والأخرى، وعن ذلك تخبرنا فتقول: "إنني أنتظر أن تفتح الحدود بين العراق وسوريا حتى أحصل على عمل في مركز طبي بالعراق حيث أتوقع أن أحصل على راتب وقدره ألفا دولار أميركي". يذكر أن الحدود بين البلدين فتحت رسمياً في عام 2019، إلا أنها أغلقت أخيراً في شهر كانون الأول 2021 بسبب الاشتباكات التي وقعت هناك.
الفرق بين العراق وسوريا بعد الحرب
بالرغم من أن العراق عصفت بها حرب دمرتها واستمرت على ذلك الوضع لعقود من الزمان، فإن الوضع الاقتصادي فيها أفضل بكثير مما هي عليه الحال في سوريا، وذلك لأن الموارد النفطية للعراق ساعدته في الحفاظ على اقتصاده طوال فترة الحرب، كما ساعدت عملته على الثبات مقابل الدولار.
ولدى سوريا نفط هي الأخرى، وإن كان بكميات أقل بكثير من تلك الموجودة في العراق، ومصافي النفط ما تزال تحت سيطرة الدولة بشكل كامل، تلك الدولة التي تعتبر ظاهرياً دولة اشتراكية، تتخذ فيها الحكومة قرارات بشأن كل القطاعات الحيوية والمهمة بالنسبة للاقتصاد، وتقوم بتنظيم المشاريع الخاصة وقوننتها بشكل صارم. إلا أن قطاع النفط والكثير من فروع الاقتصاد السوري تدمرت على مدار عقد من العقوبات التي فرضتها كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي وذلك رداً على جرائم الحرب التي ارتكبها بشار الأسد.
وفوق كل ذلك، يتمتع نظام الأسد بسلطة مطلقة في البلاد، لكنه يسيء استخدامها دائما، إذ أخيراً اتهم النظام في سوريا بالتلاعب بقيمة الليرة السورية بهدف تحقيق مكاسب شخصية للنظام وأعوانه، الأمر الذي أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في سوريا.
"لا يستطيع أحد في سوريا أن يفتتح عيادة"
بالرغم من أن غالبية الأطباء السوريين لديهم وظيفة ضمن قطاعات الدولة، فإن كلاً منهم يحلم بافتتاح عيادته الخاصة التي بوسعه أن يقرر فيها حصته ويحدد ساعات عمله، بيد أن الدكتورة سلافة تخبرنا بأن هذا الأمر لم يعد خياراً مطروحاً بالنسبة لها ولكل من تعرفهم من الأطباء حالياً، إذ تقول: "لا يستطيع أحد في سوريا أن يفتتح عيادة، إذ عليك أن تشتري أولاً المعدات الطبية التي تكلف نحو 40 ألف دولار"، فضلاً عن صعوبة تأمين تلك المعدات بسبب العقوبات، وتتابع بالقول: "حالياً، ليس لدي حتى المال لأشتري أو أدفع إيجار المكان".
أما جراح العظمية الدكتور محمد سلهب، 27 عاماً، الذي أنهى تخصصه في جامعة تشرين أيضاً، فخلال فترة دراسته كان يكسب ما يعادل 12 يورو بالشهر تقريباً، ولم يكن قادرا على مساعدة أهله، إذ بالكاد كان يستطيع دفع نفقاته هو، حيث إن شراء رداء طبي واحد بقيمة 5 يورو تقريباً كلفه نحو نصف ميزانيته الشهرية.
مهندسون بلا عمل بالرغم من وجود الوظيفة
وكما هي حال الأطباء الشباب في سوريا، يجد خريجو كليات الهندسة السورية أنفسهم في المأزق ذاته الذي لا يمكن حله إلا بإيجاد عمل تغطي أجوره نفقات المعيشة.
فمثلاً، لدينا رولا العبد الله، 26 عاماً، خريجة قسم الميكاترونيكس، وهو فرع يجمع بين الهندسة الميكانيكية والكهربائية والحوسبة والبرمجيات، من مدينة اللاذقية، وقد بدأت العمل فور تخرجها قبل ثلاث سنوات من الآن، وذلك في مكتب تابع لمديرية الزراعة لدى النظام.
ولكن بالرغم من أن رولا لديها عمل من الناحية النظرية، فإن حياتها في العمل بشكل يومي ليست مثالية، حيث تقول: "ليس لدي مكتب، ولم يعطني أحد أي عمل لأقوم به، ولذلك أضع كرسياً في الغرفة وأكتفي بالجلوس هناك... وينحصر عملي في فتح دفتر لأقيد فيه المركبات والأدوات الزراعية، ولا أقوم بفتح تلك السجلات إلا مرة واحدة بالشهر، أي أنني لا أعمل باختصاصي أو بالمجال الذي درسته". وإلى جانب سخطها على عملها، فإن راتبها لا يتجاوز 12 يورو بالشهر، ولذلك تقول: "إنه لا يكفي لدفع النفقات اليومية أو للتفكير بتأسيس أسرة".
القطاع الخاص ليس بأفضل من العام
أما زميلها في هندسة الميكاترونيكس، جورج كلش، 26 عاماً، فيعمل في مصنع لحفظ الأغذية في ريف اللاذقية، حيث يشرف على خط الإنتاج. ولقد اختار هذا المهندس وظيفة في القطاع الخاص لأنه يريد أن يبتعد عن فكرة التعاقد لفترة طويلة مع الدولة، وذلك لأنه يفكر بالسفر مستقبلاً.
ولكن للأسف ليست الرواتب في القطاع الخاص بأحسن حالاً بكثير مما هي عليه في القطاع العام، إذ لا يحصل جورج على أكثر من 26 يورو بالشهر، ونظراً للزيادة الكبيرة في عدد العاطلين عن العمل بين صفوف الخريجين، صار بوسع الشركات الخاصة أن تقدم أدنى الرواتب وتجد بالرغم من ذلك أناساً راغبين بالحصول على تلك الوظائف. ويعلق جورج على ذلك بقوله: "إن القطاع الخاص لا يعيل أي خريج، إذ إن العقد الذي وقعته لا يشتمل على شرط جزائي أو أي شروط واضحة من شأنها تأمين سلامتي وحمايتي".
سوق الأدوية يعتمد على التهريب لا على الشهادة
ومن أكثر القطاعات المتضررة بسبب البطالة قطاع الصيدلة، إذ بما أن النظام في سوريا يسيطر سيطرة كاملة على الاقتصاد، لذلك يرغم الخريجين الجدد من الصيادلة على فتح صيدلية في الريف الذي لولا تلك الصيدليات لما وجدت فيه أي صيدلية. إلا أن هذه السياسة كانت لها نتائج عكسية، إذ أصبح عدد الصيدليات في الريف السوري أكبر بكثير من العدد المطلوب، والكثير من تلك الصيدليات لا يأتيها أكثر من زبون واحد في اليوم ولا تحقق أكثر من 0.50 يورو كأرباح يومياً.
افتتحت رهف القاسم، 25 عاماً، صيدليتها خارج مدينة طرطوس الساحلية قبل عامين، إلا أنها تخبرنا بأن مشروعها بالكاد يدر عليها مالاً، ولذلك فهي ترغب بافتتاح صيدلية في منطقة أفضل داخل المدينة في يوم من الأيام، إلا أن المشكلة تتمثل بحسب قولها بأن: "طرطوس لم تعد تتسع للمزيد من الصيدليات، كما أنه ليس لدي ما يكفي من المال لدخول سوق الأدوية على أية حال".
في الواقع، شهد سوق المستحضرات الصيدلانية في سوريا تحولات كثيرة خلال السنوات الأخيرة الماضية، إذ قبل الحرب، كانت غالبية الأدوية التي تباع في سوريا مصنوعة داخل البلاد بفضل المعامل المحلية، وكانت هنالك قوانين تحمي هذا القطاع وتصعب عملية استيراد الأدوية من الخارج.
أما اليوم، فقد أغلقت غالبية تلك المصانع أبوابها أو أنها تعرضت للتدمير بسبب النزاع، ما جعل عمليات الاستيراد ضرورية من أجل سلسلة توريد الأدوية في سوريا، إلا أن القوانين الصارمة المفروضة على الاستيراد ماتزال سارية، والليرة السورية تعاني من ضعف وهشاشة، ولذلك اضطر معظم الصيادلة إلى العمل في تجارة الأدوية ضمن السوق السوداء، إلى جانب استيراد الأدوية بشكل غير قانوني من دول أخرى. وتعلق الصيدلانية رهف على ذلك فتقول: "لم يعد النجاح في هذه المهنة يعتمد على الشهادة، بل على وضعك المادي وقدرتك على تهريب الأدوية وبيعها".
وفي الوقت الذي تتحين فيه هذه الصيدلانية الفرصة لتقوم بنقل صيدليتها إلى مكان آخر، تحاول رهف الحصول على وظيفة مندوبة طبية على أمل تحقيق بعض الاستقرار المادي. إذ إن معظم خريجي الصيدلة انتقلوا إلى شركات المستحضرات الصيدلانية حتى بالرغم من الأزمة الشديدة التي تعصف بهذا القطاع.
ولكن أخيراً، استقالت الصيدلانية ربا حطاب، 26 عاماً من وظيفة مندوبة لدى شركة مستحضرات صيدلانية، وعن ذلك تقول: "كنت أعمل من الصباح حتى المساء، وهذه الساعات الطويلة التي أمضيها بالعمل أو السفر من أجل العمل تسببت بظهور ألم مزمن في ظهري". لم تكن ربا تكسب أكثر من 17.50 يورو بالشهر، كما أن الشركة التي تعمل لديها لم تقم برفع أجور ورواتب العاملين حتى بعد ارتفاع نسبة المبيعات.
أحلام مؤجلة
لهذا السبب يتوجه مئات الصيادلة السوريين للعمل في سوق العمل العراقية، حيث يمكن لأي منهم أن يكسب نحو 610 يورو بالشهر، أي ما يكفي لتأمين الطعام والمتطلبات الأساسية، ريثما تتحسن الأحوال في سوريا.
إلا أن كثيرين منهم لم يعد بوسعهم أن يتخيلوا تحسن الوضع في البلاد، ولهذا فهم يؤثرون الرحيل. إذ تقول ربا إنها تسعى اليوم للحصول على منحة دراسية لتكمل دراستها في أوروبا، وبعدئذ قد تبدأ بادخار بعض المال لتعود وتفتتح صيدلية لها في الريف بالقرب من مسقط رأسها، إلا أن كل هذه الأحلام مؤجلة في الوقت الراهن.
المصدر: فايس