icon
التغطية الحية

أرباب الشعائر التطبيلية

2024.07.21 | 10:09 دمشق

آخر تحديث: 21.07.2024 | 10:09 دمشق

56858678
+A
حجم الخط
-A

تنشأ في عصور الاستبداد طبقة من العبيد والشحاذين وشيوخ السلطان والطفيليات البشرية، وتكون وظيفتُها الارتزاقَ على حساب الآخرين وذمَّ كل من يخالف المستبدَّ برأي أو قول أو فعل. ولهذه الطبقة قرون استشعار تلتقط أي همسة مارقة، فتنقض عليها بالشتم والتخوين والقمع والاتهام بوهن عزيمة الأمة وإثارة النعرات القَبَلية أو الطائفية أو الدينية، إلى آخر الأسطوانة المشروخة المألوفة. ولازمتُهم المعهودة في أي جدل بيزنطي مع من يختلف معهم بشأن سيدهم المستبد هي: "لا أسمح لك بالتطاول على سيادة الرئيس أو ولي الأمر أو سماحة السيد الممانع المقاوم ولي الله وظله على الأرض وآيته العظمى!" وهؤلاء ينتشرون في كل زمان ومكان، كما سنرى.

لا يخفى على ذي عقل أن الطغاة لا يحكمون بالجيش والمخابرات فحسب، وإنما أيضًا بجيشٍ مُوازٍ من المفكرين والكُتاب وأساتذة الجامعات والفنانين والإعلاميين والراقصات وشتى صنوف المرتزقة والمُطَبِّلين الآخرين، ويُضاف إليهم الذبابُ الإلكتروني في أيامنا هذه. سأطلق على هؤلاء اسمًا جامعًا هو: "أرباب الشعائر التطبيلية،" قياسًا على "أرباب الشعائر الدينية،" وذلك لأن المُطبِّلين لهم سلوكيات مألوفة تكتسب صفة الطقوسية، وأيضًا لأن إيمانهم بقدسية معبودهم الفاني، سواءٌ عن قناعةٍ أم رهبةً أم مُداهَنةً أم طمعًا في غنيمة، لا يقل عن إيمان المؤمنين بالله تعالى. يقال إن مَن ذاق من مرق السلطان احترق لسانُه عن قول الحق، لكن من المُطَبِّلين من احترق لسانُه عن قول الحق ولم يذق شيئًا من خيرات صاحبه، بل كَذَبَ إرضاءً له. على أي حال، سأسرد نماذج من سلوكيات أرباب الشعائر التطبيلية لعلَّي أرسم صورة تقريبية لهذه الكائنات المشوَّهة نفسيًا وخُلُقيًا واجتماعيًا.

 يا أيها المُطبِّل، أفْتِنا في ضُراط صاحبك!

ينقل ابن عبد ربه الأندلسي في كتاب "طبائع النساء وما جاء فيها من عجائب وأخبار وأسرار" عن أبي الحسن المدائني أن فتىً من بني كلاب خطب امرأة، فاستمهلته أمها حتى تسأل عنه. سأل الخاطبُ عن أكرم رجل على أم الفتاة، فدلُّوه على شيخ يُحْسِن التوسط في مثل هذه الأمور. فذهب إليه وطلب منه أن يُحْسِن الثناء عليه. فلما ذهبت المرأة إلى الشيخ، راح هذا يكيل الثناء للفتى بلا حدود. وبينما هما كذلك أقبل الفتى، وراح الشيخ يتغنى بكل شيء يقوله أو يفعله الخاطب، حتى حين ضرط! هل أخرست ضرطةُ الفتى الشيخَ المُطبِّل؟ لا. بل زيَّن تلك الفعلة المشينة ببلاغة عجيبة يخجل منها مُطبِّلو زماننا الأغبر هذا، إذ قال: "مَا أحسن وَالله مَا ضرط: مَا أطنَّها ولا أغنَّها ولا بربرها ولا قرقرها!" ولّى الفتى هاربًا، ويبدو أن المرأة أدركت أنه لا حدود لتطبيل هذا الشيخ الأفّاق، وأنه لن يتورَّع عن تزيين ما هو أقبح من الضُّراط، ولذلك قالت له: "حسبُك، يا هذا. وَجِّه إِلَيْهِ من يردُّهُ، فوَاللَّه لَو سَلَحَ فى ثِيَابه لزوَّجناه!" حقق المُطَبِّل بتزيينه الفعل المُنكَر اجتماعيًا المُرادَ منه: تحقيق المصاهرة. وهذا من سَعْدِ الفتى الخاطب.

وأمثال هذا كثرٌ، فهم دومًا يجدون مُطبِّلين يزينون لهم قبيح أفعالهم على نحو ما ذكر محمد بن شرف الدين القيرواني:

إذا صَحِبَ الفتى جِدٌّ وسَعْدٌ *** تَحامَتْه المَكارِهُ والخطوبُ

ووافاه الحبيبُ بغير وعدٍ *** طفيليًّا وقاد له الرقيبُ

وعدَّ الناس ضَرطتهُ غِناءً *** وقالوا إن فَسا قد فاح طيبُ

أو كما قال ابن النقيب:

لو لَحَنَ الموسِرُ في مجلسٍ *** لَقيلَ عنهُ إنه يُعْرِبُ

ولو فَسا يومًا لقالوا له *** من أينَ هذا النفَسُ الطيِّبُ؟

وليت التطبيل اقتصر على تزيين هذه الأفعال غير المؤذية، وإن كانت مُنكَرةً اجتماعيًا. وإذا كان لدى بعض البشر استعداد لتزيين قبائح الناس العاديين والأثرياء، فليس من المستغرَب أن يكون لدى أرباب الشعائر التطبيلية استعداد لتأليه السلطان (كما فعل ابنُ هانئ الأندلسي في مدح الخليفة الفاطمي المُعِزِّ لدين الله أو كما فعل العَكَوَّك في مدح العِجْلي)، أو تزيين جرائمه، أو اختلاق بطولات له من الوهم (كما فعل الإعلامي المصري محمد الغيطي في آب 2014 حين ادعى أن البحرية المصرية أسرت أحد قادة الأسطول الأمريكي السادس قبالة شواطئ الإسكندرية سنة 2013).

مستعدون لتنظيف كل أوساخ السلطان!

تنتشر في مصر ظاهرة اجتماعية اسمها الشَماشِرْجية، وهذه الكلمة ذات أصل تركي (ÇAMAŞIRCI)، وهي تعني حرفيًا "غاسل الملابس" ومجازًا "مَسِّيح الجوخ." وأنقل لكم من صفحة "كلنا جمال عبد الناصر" على الفيسبُك ملخصًا لنشأة هذه الظاهرة ومعناها. ظهرت مهنة الشَماشِرْجية مع خُديوات مصر وولاتها وبشواتها، فكانوا يفتحون لهم أبواب السيارات، ويُلْبِسونهم أحذيتهم، ويهشُّون العوام من أمامهم. وحتى مع إلغاء ألقاب البيك والباشا في مصر بعد انقلاب الضباط الأحرار على الملك فاروق سنة 1952، صَمد الشَماشِرْجية أمام رياح التغيير، وحافظوا على مكانتهم في الحكومات المتعاقبة بعد وفاة جمال عبد الناصر، وشغلوا أركانًا كثيرة في بطانة كل نظام. فكان لكل وزير شَماشِرْجي خاص به، يُسْمِعه من عبارات المجاملة والإطراء ما تطرب له أذناه. ولم تقتصر مهنة الشَماشِرْجية على القطاع الحكومي، بل زحفت إلى القطاع الخاص، فصار لكل رجل أعمال شَماشِرْجي خاص به. ومهنة الشَماشِرْجية يمتهنها الحالمون الطامحون، والطامعون في اعتلاء المناصب من دون مؤهلات أو مجهود، وحتى بعض المشايخ ممن يتشدقون بالدين.

***

وممن يتشدقون بالدين، وهمُّهم خدمةُ السلطان، كان الشيخ عايض القرني والشيخ عبد العزيز الريس. فقبل سنوات قليلة خرج الريس بتصريح غريب وهو أنه لا يحق للرعية أن تُنْكِر على الحاكم حتى لو شرب الخمر وزنى على التلفاز يوميًا لمدة نصف ساعة. أما الشيخ عايض القرني، فقد أورد في كتابه «قصائد قتلت أصحابها» واحدةً من أقذر العقوبات التي يمكن أن تخطر على بال بشر، وتسويغ هذه العقوبة الخسيسة يدل في الوقت نفسه على وضاعة شيوخ السلطان. وإليكم القصة: كان دِعْبَل الخزاعي شاعرًا سليطَ اللسان لم يسلم من هجائه خلفاءُ بني العباس الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكل، لكنه مات على يد مالك بن طوق، وهو رجل أقلُّ شأنًا من هؤلاء الخلفاء الذين هجاهم. والتهمة التي أراد ابنُ طوق قتلَ دِعْبَل الخزاعي بها هي أن الأخير هجاه بقصيدة، لكن دِعْبَل حَلَف له أيمانًا مُغَلَّظةً أن أحد أعدائه ألَّف القصيدة وأشاعها بين الناس ليتخلص منه. ومع ذلك أصر ابن طوق على معاقبته عقوبةً أشنع من الموت وأقبح. يقول القرني: "ثم دعا له بالعصا فَضُرب بها حتى سَلَحَ، وأمر به فأُلقي على قفاه وفُتِحَ فمُه، فَرُدَّ سَلْحُهُ فيه!! والمقارع تأخذ رجليه، وهو يحلف ألا يكفَّ عنه حتى يستوفيه ويبلعه أو يقتله، فما رُفعت عنه حتى بلع سلحَهُ كله! ثم خلاه، فهرب إلى الأهواز" (ص 126). لا يهتز لدى القرني وازع ديني ولا تنتفض لديه كرامة آدمية. الأدهى من ذلك أن القرني لا يلوذ بالصمت إزاء هذه العقوبة الفاحشة فحسب، بل يُثني على حسن تدبير ابن طوق إذ أرسل إلى دِعْبَل فيما بعد "رجلاً حصيفًا مقدامًا أعطاه سمًّا وأمره أن يغتاله كيف شاء" (ص 127). لا يجد القرني ما يوجب الاحتجاج على هذه الخِسَّة والانحطاط الأخلاقي في إنزال عقوبة ما أنزل الله بها من سلطان بحق إنسانٍ كرَّمه الله مهما كان جرمه!

تيار اللحّيسة المِنْقَدَّسْلية

وبتاريخ 15 شباط 2021 نشرت صفحة "البهلولية نيوز" على الفيسبُك مقالاً ساخرًا بعنوان "تيار اللحّيسة المِنْقَدَّسْلية" أنقله لكم أدناه بشيء من التصرف والاختصار.

هو تيار افتراضي اجتماعي شبه سياسي وشبه منظم ظهر في الثماني سنوات الأخيرة، ينشط على وسائل التواصل الاجتماعي. يُعدّ هذا التيار – السوري بامتياز – من أخطر التيارات الفيسبوكية على الإطلاق. من الممكن أن يكون هذا التيار موجَّهًا، وقد يكون غير موجَّه، يعني غالبًا أعضاؤه من اللحّيسة بالفطرة أو بالوراثة. مهمة هذا التيار:

1)     إقناع المواطن السوري – مهما كان فقيرًا أو محتاجًا أو جائعًا أو منهارًا أو مُغتَصَبًا أو موؤودًا أو ميتًا – أن كل ما يصدر عن الحكومة يصب في مصلحته ومصلحة عائلته.

2)     أن كل ما يتعرض له من خوازيق ما هي إلا مؤامرات خارجية تحيكها القوى الرجعية والإمبريالية بهدف تدمير القوى الممانِعة والمقاومِة في الشرق الأوسط.

3)     الدفاع عن كل مسؤول (حالي، سابق، متقاعد، ميت) صار حديثَ الفيسبُك، أو تعرض للنقد بسبب عمل فاسد قام به.

4)     خلق إشاعات مضادة والترويج لها، والسعي لإقناع الشارع الفيسبوكي أن هذا المسؤول ثقة أو قامة وطنية أو شيخ وآدمي وصاحب دين، وأن كل ما قيل أو حِيك حوله ليس إلا إشاعات مغرضة تصب في مصلحة الكيان الصهيوني وعائلة روتشيلد.

5)     نشر الفرح والسرور والطاقة الإيجابية على وسائل التواصل الاجتماعي، والعمل على إقناع المجتمع الفيسبوكي السوري أن الكلاب تزقزق (وليس العصافير فقط)، وأن كل المنشورات الناقدة التي تطال أعمال المسؤولين هدفها النيل من هيبة الدولة.

6)     الدفاع عن المسؤول فلان أو الإعلامي فلان أو الجنرال المتقاعد فلان، أو العضو فلان أو الطبيب فلان، أو الوزير فلان، ثم يحاولون إقناع الشارع الفيسبوكي أن هذا المسؤول لا يخطئ، وأنه قدّم الغالي والنفيس فداءً لتراب الوطن، وأنه لولا رائحة فمه الكريهة لما كانت رائحة السنديان والياسمين.

7)     يعتقد اللحّيسة أن النقد، ولو كان بهدف تصحيح الأخطاء، حرام، وأن انتقاد المسؤول حرام، وأن كل مواطن مذنب حتى تثبت براءته.

8)     يعتقد اللحّيسة أن توقيف أي مواطن مؤقتًا لدى جهة مختصة، نتيجة تقديم شكوى بحقه من قبل مسؤول ما، هو حالة وطنية هادفة ورحلة ترفيهية، تهدف إلى خلق علاقات اجتماعية بين الموقوفين وتعزيز اللُّحمة الوطنية بين أبناء هذا البلد، وتوسيع دائرة الأصدقاء لدى الموقوف وإكسابه أصدقاء جددًا من جميع أطياف الشعب السوري.

9)     يهتم اللحّيس بأي صورة فوتوغرافية توثق معاناة المواطن ويعمل جاهدًا على إقناع الرأي العام الفيسبوكي أنها فوتوشوب، وأنها من تصميم بندر والحريري وحمد وقَطْرائيل.

10)    يعتقد اللحّيس، لا بل يؤمن، أن عليه تقديس كل مسؤول، وكل من يعلوه وظيفيًا (من هنا جاء مصطلح المِنْقَدَّسْلية).

11)    يسعى اللحّيس دومًا لتشويه الواقع المميت وحال المواطن المؤلم بهدف تغطية فشل أي حكومة سابقة أو حالية أو مستقبلية. يعني لا توجد أزمة محروقات ولا أزمة خبز ولا أسعار مرتفعة ولا حيتان مال ولا محسوبيات ولا وساطات. لا يوجد إلا مواطن نَقَّاق لا يعجبه شيء في هذا البلد.

وأخيرًا، دعوني أختتِم بباقعةٍ أكاديميةٍ. في أواخر القرن الماضي، ناقشت لجنةٌ في قسم اللغة العربية بجامعة تشرين أطروحة ماجستير تقدمت بها إحدى الطالبات، وأظنها فَلَك جميل الأسد، فعلَّق أحد المُطَبِّلين المنافقين بأن هذه الأطروحة (وهي دراسة في شعر نزار قباني) هي خير رد على العدوان الإسرائيلي الأخير على سوريا! هكذا هم أرباب الشعائر التطبيلية دومًا: يحوِّلون الهزائم إلى انتصارات والتخاذل إلى حكمة، وعندهم من الأكاذيب وأفانين التزييف ما لا تحيط به صحائف الدنيا كلها.