يقول الباحثون في الفنون الشعبية عادةً إن كل أمة من الأمم تكاد تكتب فنها الشعبي بلون ترابها وذلك للتأكيد على أهمية الخصائص البيئية لأي بلد في التأثير على فنه الشعبي الذي هو بطبيعة الحال جزء من تاريخه الشعبي العام. ومثل هذا القول ينطبق على التراث الشعبي السوري في كل مجالاته: الفنون "القوليّة" وأنماط التعامل الاجتماعي التي تتجلى في القيم والمناسبات الاجتماعية وفي العادات والتقاليد، كما تتجلى أيضاً في المأكل والملبس وأدوات القتال ووسائل الزينة، وكذلك في الغناء الشعبي وخاصة فن "العتابا" الذي انحسر في السنوات الأخيرة بعد رحيل أهم رموزه في سوريا ولم يبق إلا صدى أغنياتهم يتردد في إرجاء الفيافي والأودية والقرى التي لا تزال تحفظ وداً لماضيها.
العتابا في الأدب الشعبي السوري
تعتبر العتابا من أهم فنون الأدب الشعبي ذات الصلة ببوادينا وربوعنا العربية وقرانا على حد سواء لأنه يعبر عن عاداتها وتقاليدها الأصيلة وهو منبثق من صحرائها ورمالها وفيافيها، وولد فن العتابا في العصر المملوكي أو عصر الانحدار حين راح الشعر العامي يزاحم الفصيح وبدأ الشعراء يزيدون في الإدهاش عبر بديع اسمه "الجناس" وهو من ضروب البلاغة، فالجناس في البديع يكون من لفظين متشابهين في اللفظ ومختلفين في المعنى وعندما انتقل هذا البديع (الجناس) إلى فن العتابا أصبح يتألف من ثلاثة ألفاظ أو سبعة ألفاظ متشابهة في اللفظ ومختلفة في المعنى.
ولفظة العتابا مشتقةٌ لغوياً من العَتْب والعُتبان أي الموجدة واللوم إزاء فعل أو قول شيء ما أو اتخاذ موقف معيّن ومنها قول جرير
أَقِلّي اللَومَ عاذِلَ وَالعِتابا وَقولي إِن أَصَبتُ لَقَد أَصابا
ويقول العرب إن العتابَ صابونُ القلوب. وهناك عدة أساطير متداولة في سوريا تدور حول شرح المعنى الأصلي للعتابا ومنها قصة عن فلاح كردي كان يعيش في جبل الأكراد وكانت زوجته المسماة "عتابا" فاتنةَ الجمال، وفي أحد الأيام رآها إقطاعي ثري وأحبّها فانتزعها عنوةً من زوجها. واضطر الفلاح المقهور على أمره أن يغادرَ بلدتَه هائماً على وجهه من بلد إلى آخرَ حتى استقر به المطاف في شمالي لبنان. عندَها تفتّحت قريحتُه فأنشد:
عتابا بين بَرْمي وبين لَفْتي عتابا ليش لغيري ولفتي
أنا ما روح للقاضي ولا إفْتي عتابا بالثلاث مطلقا
أما المعنى الاصطلاحي فهو قول شعبي بين العامية والفصحى يتألف من بيتين بحيث تكون نهاية الشطر الأول والشطر الثاني من البيت الأول ونهاية الشطر الأول من البيت الثاني منتهية بالألف أو بالباء للكلمة الأخيرة ومثل ذلك قول شاعر البادية الشهير عبد الله الفاضل -ولقبه ساري العبدلله- الذي يفتخر بقومه قائلاً:
هلي ما لبَّسوا خادم سملهم وبقلوب العدا بايت سملهم
الناس النجم وأهلي سما لهم كواكب سهَّرن ليل الدجى
نشأة العتابا
ينسب البعض نشأة العتابا إلى قبيلة الجبور حيث كان أفراد تلك القبيلة يتحدثون مع بعضهم البعض بالعتابا وبعضهم يقول إن العتابا ظهرت في بداية القرن الثامن عشر واستخدمت في مجال الغناء بشكل رائع ولكن أهل البادية أهملوا هذا الأدب الشعبي ولم يحفظوه، مع أن شعراء العتابا كان لهم التأثير الكبير بين شريحة البسطاء من الناس، وفن العتابا من الأدب الشعبي الذي لا يرى فيه إلا الزركشة والرنة فقد يُطرب سامعيه ويدخل قلوبهم بلا استئذان عبر الألفاظ العذبة والسهلة التي تنساب في صياغة جميلة مأنوسة جذابة وتشبه هذه الألفاظ الشلالَ الذي يصب الماء من مكان عالِ إلى منحدر عميق.
ويحيط الغموض بنشأة فن العتابا - كما يقول الباحث والكاتب السوري "عبد الفتاح قلعجي" في دراسة منشورة له، مضيفاً أن انتشار هذا الفن تزامن لدى سكان البادية السورية مع بدايات عهد الاستقرار وبقيت فنون أخرى منتشرة لديهم يؤدونها في حلّهم وترحالهم كـ "الحداء" و"الجنابي" والقصيدة الشرقية وغيرها، والمرجح أن يكون أول ظهور للعتابا كما يشير قلعجي في نهاية القرن الخامس الهجري فهي استمرار وتطور لفنون شعرية غنائية سبقتها كـ "الدوبيت" و"الكان كان" و"القوما" من "قوما سحوراً" واشتُقت (الكان كان) من حكايات وخرافات قديمة، أما العتابا فاشتقت –حسب قوله- من "العتاب" إذ إنها أغان فراقية حزينة تكثر فيها معاتبة الحبيب، كما تشبه العتابا الموال المعروف شعبياً بـ"الأربعاوي" نسبة لأبياته الأربعة، وربما انحدرت هذه الفنون جميعها من "الموليّا" التي تعيد إحدى الروايات ظهورها إلى زمن هارون الرشيد بغرض رثاء البرامكة.
وعرفت سوريا خلال القرن الماضي العديد من شعراء ومغني العتابا الذين أثروا هذا الفن ومنحوه سمات إبداعية جديدة، ومنهم "محمد صادق حديد" من السلمية و"أحمد تلاوي" (أبو حسين) و"صالح رمضان" و"جريس أبو داود النبكي" و"محمود عروق الحسواني ( حسياء) و"أبو سلمو" و"أبو حسن الحريتاني" من حلب و"حدو سلوم" من محردة، و"عقيل قدور" الذي كانت له مناكفات ومساجلات شعرية طريفة مع الشاعر "صالح رمضان" حُفظ كثير منها في كاسيتات وعلى موقع (يوتيوب) ومن المفارقة أن ذاكرة التراث الغنائي الشعبي لم تحفظ لنا أسماء لنساء غنين العتابا إلا فيما ندر رغم أن المثل العربي يقول "ما لا يؤنث لا يعوّل عليه" وهي ظاهرة جديرة بالدراسة والاهتمام.
ملك العتابا و"عبد الناصر"
ومن مغني العتابا السوريين المشاهير الراحل "صالح رمضان" الذي رحل مطلع العام 2019 بعد رحلة طويلة من الغناء الشعبي والعتابا أحيا خلالها أكثر من عشرة آلاف حفلة وأمسية غنائية في سورية ولبنان محطماً الرقم القياسي في هذا المجال، وكان يجيد العزف على الربابة، وبدأ "أبو نادر" يقرض الشعر الشعبي في قريته "السماقية الشرقية" في ريف حمص منذ سن مبكرة، ونظراً لأنه امتلك طاقة وموهبة في مجال الكلمة والصوت لمس حب أهل القرية للغناء التراثي كما روى لكاتب هذه السطور قبل وفاته بسنوات أثناء زيارة إلى منزله في حمص، وأضاف الفنان الراحل أن أهالي قريته الواقعة على الحدود السورية اللبنانية كانوا يرددون الغناء الشعبي وخاصة العتابا في الحقول أثناء عملهم وفي مجالسهم وأمسياتهم ومواسم الحصاد وأغاني الخبز, وطحن الرحى، وزفاف العرائس والختان، وروى رمضان أن "جمال عبد الناصر" زار مدينة حمص زمن الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وكان يومها -أي رمضان- موظفاً في إطفاء حمص وبينما كان عبد الناصر يلقي خطاباً في دار الحكومة كان رمضان –كما يقول- يردد بعض الأبيات والأهازيج الارتجالية ومنها:
لبيك عبد الناصر
شعب العروبة حاضر
من المحيط العربي
إلى الخليج الثائر
وهنا توقف عبد الناصر وسأل أحد المقربين: "من هذا الذي يغني" فقالوا له إنه عامل في إطفاء حمص أحب أن يحتفل بـ "الوحدة العربية"، فطلب عبد الناصر لقاءه عن قرب. وتابع رمضان أن لقاءه بعبد الناصر لم يتأخر فبينما كان الثاني يتناول الغداء في نادي الشرق بحمص أحضره مرافقو عبد الناصر إليه، فأعطاه 750 ليرة وهو مبلغ كبير للغاية في وقتها حيث اشترى مواد البناء لتشييد منزل خاص له في حمص.
وعمل "ملك العتابا" كما يلقبه عشاق هذا الفن على إعداد برنامج صوت الفلاحين في الإذاعة السورية عام 1967 ولكن البرنامج لم يستمر أكثر من سنتين بسبب الظروف الاقتصادية ومشاق السفر في ذلك الوقت، وفي أرشيف الإذاعة مجموعة من الحلقات لذلك البرنامج الذي يتضمن أبيات عتابا ارتجالية له، وكشف رمضان أن معظم أبيات العتابا التي كان يرددها في الأمسيات الفنية والأعراس تم تسجيلها حينذاك على أشرطة "البكر" وبعدها ظهرت أشرطة الكاسيت وانتشر صوته في أنحاء سوريا خاصة وبلاد الشام عامة.
جولات داخل سوريا لحفظ العتابا
من الباحثين السوريين الذين عملوا على توثيق التراث الموسيقي والغنائي في سوريا ومنها فن العتابا لصالح الجمعية المعلوماتية قبل سنوات الثورة الكاتب "عبد الله القصير" الذي روى لـ"موقع تلفزيون سوريا" أنه قام بجولات كثيرة في الأرياف والمدن السورية لتوثيق هذا الفن مع ما تم توثيقه من فولكلور غنائي كدرعا والساحل وحمص وريف دمشق وحلب وإدلب وحماة، وكان يبحث عن حفظة ومرددي العتابا وتسجيل تراثهم وما يحفظونه، مضيفاً أن الهدف من هذا المشروع هو حفظ هذا التراث الذي يوشك على الاندثار وبخاصة بعد اندلاع الحرب والهجمة الشرسة التي قام بها النظام واستهدافه فيما استهدف الكثير من حفظة التراث الغنائي ومغنيه، إضافة إلى سيطرة القوى الظلامية كـ تنظيم "الدولة" و"النصرة" على بعض المناطق ومحاربة الغناء والموسيقا وتحريم تداول الغناء والموسيقا وفي بعض المناطق تم حرق للآلات الموسيقية وجلد لبعض الموسيقيين الذين اتهموا بالكفر مما زاد الطين بلة.
وتابع محدثنا أن فن العتابا كان ضحية من ضحايا الحرب السهلة في سوريا ولكن هذا الهدر –إذا صحت التسمية- لم يكن وليد الحرب بل ما قبلها إذ كانت العتابا ضحية للإهمال والنسيان، وكشف القصير أنه قابل أثناء رحلة توثيقه كثيرا من شعراء ومغني العتابا ومردديها وسجل لهم ما يعادل 1200 فيديو لا زالت بحوزته واثنان ممن التقى بهم ووثق لهم من مدينة النبك وهما "جرجس مرشاق" و"مصطفى غنام" وكلاهما توفيا في التسعين من أعمارهما ليموت معها تراثهما الذي اشتغلا عليه طوال أكثر من 60 عاماً، كما صور في درعا لكثير من حفظة الفولكلور والعتابا وقسم منهم تهجر وقسم مات، كما صور نماذج للعتابا لفنانين من السويداء وهي-حسب قوله- مختلفة في طريقة غنائها وكلماتها وأدائها عن عتابا الساحل مثلاً ، وأردف أن العتابا التي قدمها "محمد صادق حديد" و"أبو حسين مغربية" تختلف كلياً عن أي عتابا أخرى في سوريا.
ولفت القصير إلى أن العتابا هي نمط غنائي له خصوصيته وقواعده، ويقوم هذا الفن على محسّن بديعي هو الجناس ويتركب بيت العتابا عادة من بيتين أو أربعة أشطر وعلى الأشطر الثلاثة الأولى أن تنتهي بلفظة جناس أي اتفاق في النطق واختلاف في المعنى.
وعبّر محدثنا عن اعتقاده بأن العتابا لا زالت موجودة وهي ذات خصوصية ولا يمكن أن تنقرض ولكن قد تضيع منها كثير من التفاصيل المرتبطة بمفردات حياتية سابقة، لافتاً إلى أن العتابا الحديثة بدأت تأخذ طابعاً مختلفاً وتتضمن مفردات الحياة المعاصرة وعالم التواصل والتكنولوجيا التي لم تكن موجودة في الماضي .
للموتى عتاباتهم
وبدوره أشار كاتب سوري فضّل عدم ذكر اسمه لـ"موقع تلفزيون سوريا" أن معظم شعراء العتابا المهمين في سوريا كانوا من منطقة الغاب بريف حماة وبادية حمص وحماة مثل "حسن الشريف" و"صادق حديد" وابنه "محمد صادق حديد" و"أسد فقرو" وهو جد الفنان الراحل "فؤاد فقرو" المعروف باسم "فؤاد غازي" واستدرك محدثنا أن "فن العتابا" هو امتداد لفن الداخل مع اختلافات قليلة في اللهجة من مكان إلى آخر.
وحول ما تمتاز به العتابا في سوريا أشار المصدر إلى أن هذا الفن يمتاز بقدرته على تنويع اللهجات وتنوع المواضيع والمفردات ورقة معانيها ومبانيها وهي تؤدى –حسب قوله- في أي مكان، في الحقل أثناء العمل الزراعي وفي المرعى قرب الأغنام وفي حفل أمام الجمهور وحتى على رأس الميت الذي لم يدفن بعد هناك أبيات عتابا مخصوصة وأبيات للعروس وأبيات لمديح أصحاب الإنجازات وهكذا.