نزيف الدماء في الشوارع السورية لم يأت فقط من سقوط الضحايا المدنيين وأنّات المعتقلين وأوجاع المصابين وهجرة ونزوح نصف السكان، بل طال أيضاً تدمير القدرات الصناعية، وهجرة الصناعيين وأصحاب الكفاءات والمهن والحرفيين إلى الخارج. عُرفت سوريا فيما سبق بصناعاتها المتنوعة والمتقنة، إلا أن النظام وسلوكه الممنهج في التدمير والتهجير، والظروف الدولية تسببت بانهيار قطاع الصناعة.
عقب خروج المناطق عن سيطرة النظام واجهت ريف حلب صعوبات كبيرة في إعادة تحريك عجلة الصناعة، ابتداءً من تعدد جهات السيطرة، لانحسار السيادة بيد النظام وهو ما حدّ من قدرة أجسام المعارضة على استخراج الأوراق القانونية اللازمة مثل شهادة المنشأ، والبيان الجمركي. بالإضافة إلى العقوبات الدولية المفروضة والحظر المطبق على بعض المناطق، وانقطاع سلاسل التوريد، وتدمير البنى التحتية من طرقات وجسور ومياه وصرف صحي وكهرباء، وانقطاع حوامل الطاقة الرئيسية من غاز ووقود وكهرباء، العامل الحاسم في النشاط الصناعي. وهناك أيضاً عوامل مرتبطة بحداثة الأجسام الحوكمية في المنطقة وانتشار الإغاثة على حساب التنمية، ولا يجب أن ننسى حالة الفقر والنزوح وانخفاض القوة الشرائية التي عانت منها المنطقة بطبيعة الحال. كل هذه الصعوبات ساهمت بشكل أو بآخر في إضعاف القطاع الصناعي بريف حلب.
لمع أول بصيص أمل مع دخول الكهرباء للمنطقة بعد استجرارها من تركيا، وتزويد كهرباء منتظمة للمساكن والفعاليات التجارية والصناعية، ولكن مع مرور الوقت اتجه سعر الكهرباء نحو الارتفاع وبلغ أقصى سعر وصل إليه الكيلو واط 5.75 ليرة تركية في العام 2023 وهو ارتفاع بحوالي 5 أضعاف عن السعر الذي بدأت به الخدمة عند 0.85 قرش تركي في العام 2019.
ارتفاع سعر الكهرباء لا يشكل حدثاً عابراً! فتأمين كهرباء منتظمة، وبأسعار رخيصة، أحد العناصر الرئيسية لإعادة تشغيل المصانع في المنطقة.
بداية العام 2024، ونتيجة الاحتجاجات المستمرة للأهالي، وتزايد حنق المجالس المحلية على إجراءات الشركتين واتنهاكهما لبنود العقد، انخفض سعر الكيلو واط إلى 3.25 ليرة تركي للتجاري والصناعي، و2.81 ليرة تركي للسكني. في حين أبدى العديد من الصناعيين أن السعر العادل للكيلو واط يقع بين نصف ليرة وليرة تركية للبقاء في سلم التنافسية ومراعاة ظروف المنطقة وعدم توفر دعم مالي ومادي من قبل الأجسام الحكومية.
يبلغ وسطي الاستهلاك المنزلي حوالي 200 كيلو واط أي 562 ليرة تركية، تشكل حوالي 20% من راتب المعلم البالغ 2800 ليرة تركي
لا يزال السعر في نظر الأهالي مرتفع الثمن، إذ تدفع شريحة واسعة من السكان ما بين 10- 20% من دخلهم على فاتورة الكهرباء البالغة وسطياً 281 ليرة لشحن 100 كيلو واط وهو الحد الأدنى من الاشتراك للكهرباء المنزلية. في الوقت الذي يبلغ وسطي الاستهلاك المنزلي حوالي 200 كيلو واط أي 562 ليرة تركية، تشكل حوالي 20% من راتب المعلم البالغ 2800 ليرة تركي.
بطبيعة الحال، تؤدي زيادة فاتورة الكهرباء إلى تقليص الإنفاق على شراء السلع والخدمات الكمالية، وانخفاض المدخرات، وتزايد حالة الغموض والقلق من المستقبل.
وسينعكس هذا الوضع بالمحصلة على انخفاض طلبات تصنيع السلع والخدمات، وتكدسها في المخازن، وحدوث ركود وتشوهات في الأسواق. وهو ما لوحِظ في أسواق ريف حلب على مدار السنوات الماضية إذ لم ينعكس توفر الكهرباء إلى توسع ملحوظ في الأعمال التجارية والصناعية وزيادة المبيعات والاستهلاك.
دعني أوضح فكرة مهمة هنا، في الأحوال الطبيعية يتم تلبية احتياجات المجتمع من السلع والخدمات، إما محلياً من خلال التصنيع، أو عبر الاستيراد من الخارج. تهدف أي حكومة في العالم للوصول إلى حالة التشغيل العام، لا بطالة، لا فقر، ونمو متواصل في الأعمال والمشاريع. تعمل الحكومة على تشجيع الصناعات المحلية، أما إذا توفر لها موارد ريعية عالية، عادة ما تهمل القطاع الصناعي وتعتمد على الاستيراد بشكل أكبر.
في مناطق المعارضة بريف حلب، على مدار السنوات الماضية عقب تحررها في إطار عمليات "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام" لم يتم تعزيز القطاع الصناعي، ولم تمتلك الحكومات المتعاقبة موارد ريعية. وعليه عانى السكان والصناعيون من صعوبات معيشية واقتصادية قاسية، وبقيت العجلة الاقتصادية بدون حركة!
بالعودة إلى الكهرباء، أسفر ارتفاع أسعار الكهرباء بتأثير مباشر على تكاليف الإنتاج الصناعي، وخاصة المنشآت الصناعية التي تستهلك الكهرباء بكثافة، حيث شكلت تكاليف الكهرباء جزءاً كبيراً من نفقاتها التشغيلية، قدرت لدى بعض المصانع بحوالي 30% من تكاليف الإنتاج الإجمالي، وشبه بعض الصناعيين شركة الكهرباء بأنها "شريك" له.
رتفاع تكاليف الكهرباء من الحصة الإجمالية للإنتاج لا تمثل بنداً محاسبياً وحسب، بل تحدياً يواجه نمو واستدامة هذه الكيانات التصنيعية
يلجأ الصناعيون في مختلف بلدان العالم إلى تحميل الزيادة في تكاليف الإنتاج على سعر السلعة، إلا في ريف حلب حيث لا يستطيع صناعيوها الاستجابة لارتفاع التكاليف، فارتفاع سعر السلعة سيؤدي لانخفاض المبيعات نظراً لانخفاض القوة الشرائية للمستهلكين، وانخفاض قدرتهم التنافسية في الأسواق الدولية، وهو ما يقلّص من هامش الأرباح، وسينسحب على رغبة الصنّاع بالاستمرار في العمل، بالأخص أمام عدم وجود دعم مالي حكومي، أو توفير حوافز للإنتاج والتسويق المحلي والخارجي. واضطر الكثير من الصناعيين إلى تقليص حجم العمليات، وتقليل ساعات العمل، وأجور العمّال، للتأقلم مع ارتفاع التكاليف.
ونتيجة لهذا فإن ارتفاع تكاليف الكهرباء من الحصة الإجمالية للإنتاج لا تمثل بنداً محاسبياً وحسب، بل تحدياً يواجه نمو واستدامة هذه الكيانات التصنيعية، وتحول تفكير المصنّعين من التوسع والابتكار والنمو إلى البقاء والصمود في السوق. وهذه النقطة بالذات إن لم تشعل الضوء الأحمر للحكومة السورية المؤقتة والمجالس المحلية، فلا أدري متى سيتم إشعالها والتعامل مع هذا الظرف.
ما هي الحلول المتاحة؟ تقديم تحفيز حكومي وبرنامج مالي يدعم الصناعيين، ودعم سعر الكهرباء من قبل الحكومة، وتشجيع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، وإعادة التفاوض مع الشركتين المزودتين للكهرباء، والقيام بحملات مناصرة في المغترب لدعم الصناعة، وتوجيه المنظمات من الإغاثة إلى التنمية، والضغط على "الإدارة الذاتية" لتوريد الوقود بأسعار رخيصة، والتفاوض مع تركيا للاتصال بالأسواق الدولية وحل مشكلة شهادة المنشأ، وإيجاد طرق للوصول إلى المنظومة المالية الدولية.
أستطيع كتابة صفحة كاملة من الحلول والخيارات لحل مشكلة الطاقة وتنمية قطاع الصناعة. ولكنني أشكك في تطبيق أياً منها، بسبب الأوضاع الميدانية والحوكمية على الأرض، وتعسّر الحلول السياسية، إضافة إلى الظروف المحيطة بالملف السوري. ربما نصرف عقداً آخر في مناقشة مشاكل الاقتصاد السوري ونظل نقترح الحلول، بدون جدوى.
في الواقع ربما ليس علينا إيجاد حل للصناعة والكهرباء، فحلها يعد تحصيل حاصل إذا حلّت المشاكل الكبيرة، وأعتقد أن الأجدى هو العمل على خلق نموذج سياسي واقتصادي يوائم الظروف الحالية وجهات السيطرة والفواعل المتدخلة ويحل كافة المشاكل العالقة على كافة المستويات. العمل يجب أن ينصب على النموذج السياسي والاقتصادي بين مناطق السيطرة.