رحل فؤاد حميرة، الكاتب والسيناريست البارز، مثيراً موجة من الحزن والأسى بين السوريين الذين رأوا أعماله وتعلقوا بها، "غزال آخر يرحل من غابة الذئاب" كما قال عدنان ناصر في تقريره على تلفزيون سوريا. يموت السوريون مرضاً وقهراً وألماً من جرّاء غابة الذئاب تلك. فؤاد حميرة، كغيره ممن سبقه، مثل خالد تاجا، وحاتم علي، ومي سكاف، ومحمد الأتاسي، وخالد خليفة، وآخرين مثلوا هموم الشعب السوري وآماله وثاروا على النظام قبل اندلاع الثورة نفسها، وشكلوا الهوية الفنية السورية المبدعة والتي شقّت طريقها على الرغم من آلة الفساد والقمع، تجاوزت أعمالهم الدرامية حدود سوريا ولامست وجدان الشعوب العربية، نجحوا في تقديم قصة وصورة بكل احترافية، شهد لهم القريب والبعيد.
اليوم وقد هُجّر السوريون إلى كل بلدان العالم، عاد الكل إلى الماضي لينبش تلك المسلسلات التي كتبت ومثلت وأخرجت باحتراف منقطع النظير، أحبَّ الكل جمعة العائلة في الفصول الأربعة، وغصة خالد تاجا في التغريبة الفلسطينية، ونص "المهلهل" لممدوح عدوان، وحقبة الخمسينات في مسلسل "الثريا" و"خان الحرير" لهيثم حقي، ورحلة جمال سليمان وبحّة صوته وأشعاره في السلسلة الأندلسية لوليد سيف وحاتم علي، ضحكت العائلة بفضل مسلسلات "مرايا" و"بقعة ضوء" و"عيلة خمس نجوم" لهشام شربتجي، وغيرها كثير.
بل ترانا الآن نحب شارة المسلسلات القديمة، فمن لم يستأنس بشارة "أحلام كبيرة" لطاهر ماملي "كل شيء ضاق.. ضاق حتى ضاع". افتقد السوريون تلك الحقبة من الفن الرفيع نصاً وصورة، وربما وجدوا بتلك الأعمال دفئاً وحنيناً وشبهاً كبيراً لتفاصيل حياتهم أكثر من الأعمال الدرامية الحديثة.
نقل السوريون عند خروجهم من بلادهم عاداتهم في المأكل والمشرب والملبس والتربية، ولم يستطيعوا حتى الآن لمّ شتات الهوية والصورة الدرامية القديمة، وحال الأخيرة كحال أهلها؛ جهاد عبدو في أميركا، هيثم حقي في باريس، جمال سليمان في مصر، يارا صبري في كندا، وياسر العظمة وعابد فهد في دبي، وبسّام كوسا ومنى واصف وأيمن زيدان وسليم صبري وغيرهم في دمشق، وعبد الحكيم قطيفان في ألمانيا، وفي لبنان وتركيا والسويد وكل بقاع العالم.
الكل ينتظر خلاصاً سياسياً يخرج البلد مما فيه ويعيد السوريبن من تيههم وغربتهم. خلال هذا الانتظار، نتناقل نعوات للكتّاب والمخرجين والممثلين والفنانين من كل التخصصات، سواء من بلاد المغترب أو سوريا.
يُقال عندما نزل الأمير عبد الرحمن الداخل في الأندلس بنى مدينة في ضواحي قرطبة سمّاها "الرصافة" وزرع فيها أول نخلة يتطلع إليها بشوق إلى الشام، يحكي فيها أشعاراً وقصائد، وقد بات هناك تشابهاً كبيراً بين الأندلس والشام بفضل من نزل من السوريين في تلك البلاد في شكل النقوش والزخرفات والبيوت والنوافير والأزقة والأسواق.
الفن لا يحده مكان ولا زمان، فإذا كانت أزمة السوريين الإنسانية لم يشهد لها مثيل في التاريخ الحديث، فهي مدعاة أكبر للتماسك في الصورة الدرامية واستكمال السلسلة وتقديم أعمال هادفة من كل الألوان، وأفضل من تقديم مسلسل "باب الحارة" رقم 25 بصورة مشوّهة يريدها النظام. يمكن صناعة أفلام ومسلسلات تعبّر عن الثقافة السورية وتحاكي المآسي والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمرّ بها البلد.
بدلاً من انتظار النعوة القادمة بكل حرقة وألم وتذكر المآثر والأعمال، ربما على البعض أن يأخذ مبادرة تتبنى إعادة رونق الأعمال الدرامية السورية إلى مسيرتها، أو يعمل على تأسيس شركة إنتاج فني، تنتج أعمالاً فنية حديثة بكتابات السيناريست المنتشرين في كل بقاع العالم. تعمل على إنتاج أفلام ومسلسلات تراعي التطور في الصورة واستمرار سلسلة الإبداع والهوية البصرية السورية، وللتأكيد أن حالة الفن لم تكن مرهونة بأرض اسمها سورية، وأن جزءا من الكفاح والنضال ضد النظام تقع على مسؤولية الفن والفنانين.
ربما يختلف السوريون على أشياء وتفاصيل كثيرة، فتجد في العائلة الواحدة ألواناً سياسية، وتوجهات فكرية، وأنماطاً معيشية مختلفة، ولكن ستجد جميع أفراد العائلة قد جلسوا يحتسون الشاي على مسلسل "المهلهل"، و"الفصول الأربعة"، و"أيام شامية"، و"صقر قريش" أو "ربيع قرطبة"، وغيرها من المسلسلات، يمكن للفن أن يكون وسيلة فعّالة لبناء الجسور بين المختلفين، وتعزيز التفاهم بين أفراد المجتمع، وتشجيع الحوار، والتخفيف من الصدمات النفسية، وإعادة بناء الهوية الجمعية، وهي أيضاً أداة للتوثيق.
لا يمكن للفن بأي حال من الأحوال أن يحل النزاعات بمفرده، لكنه يمكن أن يكون أداة قوية لبناء وتعزيز السلام والتفاهم والتعافي، من خلال تناول القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
يمكن إنتاج مسلسلات تحاكي واقع السوريين اليوم، ومسلسلات شامية تذكّر الناس بهويتهم وكيف واجهوا أصعب الظروف خلال تاريخهم، وتؤكد لماذا حدثت الثورة ضد النظام أو كما قال فؤاد حميرة "هذا البلد سيحدث فيه ثورة"، وتعيد للأذهان تجارب السياسية التي مرّت بها سوريا ما بعد الاستقلال، لدى كل شخص من ملايين المغتربين واللاجئين والنازحين تغريبة "فمن سيكتب ويمثّل ويخرج تغريبتنا السورية؟". لا أدري هل ننتظر الخلاص أم نقف جانباً ننعى ونعزّي أم نتفرّج على قصص حبيبين على ضفاف البوسفور أو قصة خيانة، لا علاقة لها بواقع القضية السورية ولا القضايا العربية عموماً.