بدأت مؤشرات تراجع المساعدات الإنسانية بالظهور مع تناقص تمويل المجتمع الدولي لاحتياجات سوريا، وما كنّا نحذّر منه قبل سنوات بشأن مخاطر هذا الأمر بات واقعاً يُتوقع استمراره خلال الأشهر القادمة.
كان من المفترض أن يحدث هذا الانخفاض في عام 2023، لكن كارثة الزلزال التي ضربت شمالي سوريا وجنوبي تركيا أدت إلى تأجيل الأزمة مع تدفق الأموال والمساعدات الإنسانية إلى المنطقة.
في تموز 2023 اضطر برنامج الأغذية العالمي إلى خفض مساعداته بنسبة تزيد عن 40% ما أدى لانخفاض عدد المستفيدين من 5.5 مليون شخص إلى 3.2 مليوناً، ولم تتلق خطط الاستجابة الإنسانية خلال العام 2023 سوى ما يقرب من 30% من التمويل المطلوب. وتظهر بيانات مكتب "تنسيق الشؤون الإنسانية" "أوتشا" أن فاتورة المستحقات الإنسانية عن عام 2024 وتُقدّر بـ4.4 مليار دولار، في حين لم تصل أية مبالغ مالية لتغطية فاتورة المساعدات الإنسانية.
ومع تقلص المساعدات بدأت المنظمات بتقليص مساحات العمل والتدخلات الإنسانية في مناطق شمال غربي سوريا، وتسريح العمّال، والبحث عن مصادر تمويل بديلة.
هل تفاجأ أحد بتوقف أوتقلص المساعدات الإنسانية يا تُرى؟ من غير المحتمل أن يتوقع أحد أن الأموال والمساعدات ستظل تتدفق على سوريا إلى الأبد!
الأسباب التي تدفع الدول لإعادة النظر في دعمها الإنساني متشابكة ومتعددة، لعلّ أبرزها استمرار أمد الصراع في سوريا لفترة طويلة، والأزمات الاقتصادية العالمية التي تشهدها العديد من الدول اليوم وعلى رأسها التضخم وارتفاع الفائدة وسلاسل التوريد، إضافة إلى الحروب الدولية التي تحتّم على الدول ترتيب أولوياتها المالية بناءً على احتياجاتها الخاصة.
وأخيراً، ظهور أزمات إنسانية أكثر حدّة في مناطق أخرى، مثل ما يحدث في قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع بعد أحداث 7 تشرين الأول 2023.
ما العمل الآن في ظل هذه الأزمة المركبة؟
دعونا نفترض أن المساعدات الإنسانية قد توقفت بشكل كامل في الأشهر القادمة، وأن تمويل احتياجات النازحين في المخيمات وخارجها قد جفّ، وخرجت المنظمات أيضاً من كونها الموظف الأكبر للسكان في المنطقة، وبتنا أمام السؤال المركزي ممثلاً: ما الذي يمكن عمله في ظل افتقار المنطقة للموارد الاقتصادية وصعوبات جمّة لتحريك الدورة الاقتصادية؟
لا بدّ أن ندرك أنه لا وجود لعصى سحرية لتجاوز المشاكل والتحديات في وقت قصير.
يتطلب من الحكومة المؤقتة في هذا الإطار، العمل على وضع خطط اقتصادية متوسطة وطويلة المدى، وإصدار موازنة مالية بنفقات استثمارية وجارية
وأن أولى الخطوات التي يعّول عليها، إعلان بدء مرحلة جديدة في المنطقة ذات سمات وخصائص تختلف عن المرحلة السابقة، تتطلب تحوّل المنظمات الإغاثية إلى منظمات تنموية تعمل في مجالات متنوعة وتنضم للعمل تحت سقف الحكومة السورية المؤقتة وتتماهى مع الأهداف الموضوعة لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة.
ويتطلب من الحكومة المؤقتة في هذا الإطار، العمل على وضع خطط اقتصادية متوسطة وطويلة المدى، وإصدار موازنة مالية بنفقات استثمارية وجارية، وإذا كانت غير قادرة على تمويل تلك النفقات من خلال طباعة النقود لافتقادها السيادة والحق يمكن العمل على خطط بديلة لتمويل الموازنة، مثل: الاستدانة من الدول الصديقة والحليفة، وإصدار سندات أذون خزانة، وخصخصة بعض القطاعات، وإصدار عقود استثمارية وفق امتيازات مغرية للمستثمرين، وإصدار عقود (ابنِ، شغّل، انقل)، وتأسيس شركات ذات صيغة مشتركة بين القطاع العام والخاص ويتم تمويلها من الشعب والمغتربين، وترويج خطط استثمارية في بلدان المغترب.
إذا نجحت المنطقة في لملمة إدارة المنطقة بشكل كامل، ستصبح المشغّل الرئيسي جنباً إلى جنب مع القطاع الخاص، فتعمل على تطوير مشروعات خاصة ومتوسطة تستغل من خلالها الموارد المحلية مثل الزراعة والصناعات المتوسطة، وتنفيذ الخدمات الأساسية من مياه وصرف صحي وكهرباء ونقل وصحة وتعليم ونظافة وغيرها من المشاريع التي تسهم في تعزيز البنية التحتية، ويتم ضبط معادلات التضخم والبطالة والقوة الشرائية والدَّين والإنتاج الصناعي والتجارة وغيرها من مؤشرات اقتصادية كلية.
يقع على عاتق الحكومة تمكين القطاع الخاص وجعل سياسات الاستثمار والعمل أكثر موائمة مع البيئات المحيطة.
فبدلاً من تعبيد الطرقات من قبل المنظمات بشكل متقطع، تتولى الحكومة عبر وزارة النقل والمواصلات وضع خطط متكاملة لتعبيد شبكة الطرق إما لوحدها أو بشكل مشترك مع القطاع الخاص، وعوض أن تقوم المنظمات بتدخلات مادية ونقدية لتمويل مشاريع الزراعة والثروة الحيوانية، ستوجه الحكومة المؤقتة جزءاً من مواردها وعبر وزارة الزراعة لدعم زراعة المحاصيل الأساسية كالقمح والشعير والذرة والقطن والزيتون، وتقديم مواد مدعومة مثل الوقود والآليات والأسمدة والبذار، وقروض ميسّرة للفلاحين، وجعل مشاريعهم الزراعية أكثر ربحية.
وفيما يتعلق بقطاع الصناعة، يُفترض بالحكومة المؤقتة عبر وزارة الصناعة تذليل كافة الصعوبات والعوائق أمام الصناعيين وفتح خط ساخن أمامهم لحل مشاكلهم، في سبيل جعل الصناعة حاملا اقتصاديا في المنطقة.
ومن جملة ما يمكن القيام به هو دعم سعر الكهرباء، وخفض الرسوم والضرائب، وتقديم حوافز للصناعيين، وفتح قنوات تصدير السلع والخدمات، وحل مشكلة المنشأ والبيانات الجمركية ومعايير السلامة وغيرها.
لا شكّ أن مسألة الطاقة، ستحتل مكانة كبيرة وهامة في سلم أولويات الحكومة. ومن أجل إيجاد حلول لهذه المعضلة يمكن عقد اتفاقات مشتركة مع مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" لتحصيل الوقود إما من خلال مبادلته مع سلع تنتج محلياً أو شرائه بأسعار زهيدة، وجعل توريد النفط الخام وتكريره وبيعه بيد الحكومة لمنع حالات الاحتكار، والاستغلال، وتلويث البيئة.
ويقع على عاتق الحكومة تمكين القطاع الخاص وجعل سياسات الاستثمار والعمل أكثر موائمة مع البيئات المحيطة، وفتح مكتب لجذب الاستثمارات الأجنبية في سوريا لتسويق الفرص الاستثمارية في المنطقة.
ووضع خطة لتوطين سكان المخيمات وتأمين حياة كريمة لهم، وتقديم برنامج إعانات مالية للسكان، ودعم سلسلة من السلع والخدمات.
ستقع على كاهل الحكومة أعمال كثيرة وتحديات كبيرة، ولكن بالتعاون والتنسيق مع المنظمّات والقطاع الخاص والمجتمع المحلي قد يهون كل شيء، ومن أجل إيقاف الأزمة والمشاكل التي تتصدّر المشهد الدولي عن سوريا، لا بدّ أن تبدأ المرحلة التالية وبناء نموذج خاص للمنطقة.