من المفترض، كوني عملت في القضاء المدني السوري لمدة تزيد عن العشر سنوات، في دمشق وريفها، أن أكون مطلعاً على طبيعة عمل محاكم الميدان العسكرية أو على الأقل على تشكيلها، لكن هذا لم يحصل، ليس لأنني لم أرغب بإشباع حب الفضول في معرفة ذلك، بل لأنها كانت محاطة بسرية تامة حتى علينا نحن، قضاة سوريا ومحاميها. ولم يكن للمحكمة المذكورة مبنى خاص بها، بل كانت جلساتها تعقد في مبنى الشرطة العسكرية في القابون بدمشق، وليس من لافتة أو إشارة تدل على وجودها في المبنى المذكور، وحسب أقوال بعض السجناء الذين كتبت لهم النجاة بعد محاكمة صورية أمامها، فإنه يتم تخصيص غرفة من غرف مبنى الشرطة العسكرية لضباط "قضاة" المحكمة ليوم عمل واحد أو يومين أسبوعياً، ليتم عقد جلسات شكلية لا تتجاوز دقيقتين أو ثلاث، حتى بدون محامين، كون حق الدفاع مهدوراً أمامها.
وتعتبر محاكم الميدان العسكرية من المحاكم الاستثنائية التي كانت ولا تزال من الأجهزة الرديفة للسلطات الأمنية، المحصنة من الملاحقة القضائية أصلاً، وتحاول منحها المشروعية من خلال إصدار أحكام جائرة بحق سجناء غيَّبتهم تلك الأجهزة لشهور أو لسنين أحياناً، وذلك عبر ثلاث ضباط يسميهم وزير الدفاع لا يحملون شهادة القانون، ويطلق عليهم زوراً لقب "قضاة"، ويحق لرئيس الجمهورية، في حالات الإعدام، وكذلك لوزير الدفاع في الحالات الأخرى، أن يأمرا بإعادة المحاكمة أمام محكمة ميدان أخرى غير تلك التي أصدرت الحكم، كما ويحق لهما تخفيف العقوبة أو إلغاؤها نهائياً، وإذا كان الأمر كذلك هل يعقل أن نسمي هذا الجهاز بالمحكمة؟
وفقاً لروايات بعض الشهود الناجين من براثن تلك المحاكم، كان يتم تنفيذ أحكام الإعدام في مبنى سجن صيدنايا أو سجن تدمر العسكري، وكان يتم تكديس الجثث في سيارات الزيل العسكرية، ومن ثم يتم دفنها في مقابر جماعية
بالنسبة لي شخصيا أسميها بمحاكم الموت، واستخلصت هذه التسمية من كلام وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس الذي أدلى به لجريدة دير شبيغل الألمانية، عندما قال ذات مرة بأنه كان يصادق على 250 حكماً بالإعدام تقريباً أسبوعياً، وكان يقصد بهذا الكلام الأحكام الصادرة عن محاكم الميدان، مع أن مرسوم إحداث تلك المحاكم كان ينص على أن رئيس الجمهورية هو من يصادق على أحكام الإعدام، إلا أن الأخير فوَّضَ وزير الدفاع بهذه المهمة "الجليلة"، ووفقاً لروايات بعض الشهود الناجين من براثن تلك المحاكم، كان يتم تنفيذ أحكام الإعدام في مبنى سجن صيدنايا أو سجن تدمر العسكري، وكان يتم تكديس الجثث في سيارات الزيل العسكرية، ومن ثم يتم دفنها في مقابر جماعية في مناطق مختلفة من صحراء البادية السورية، دون أن يتم تسليم الجثث لذويها ليصار لدفنها وفقا للعادات والتقاليد، دون مراعاة لحرمة الميت، وليبقى الأهل في جهالة على مصير السجين، وما يحمله ذلك من تبعات اجتماعية وقانونية مدمرة لعائلته.
كُتِبَ الكثير عن هذه المحاكم وعدم مشروعيتها ومخالفتها لقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما تلك المتعلقة بالمحاكمة العادلة، وشفافية المحاكمة ونزاهتها وحيادها، لذلك لن نتطرق لهذه المسألة لأنها أشبعت حديثاً وكتابةً، لكن سنحاول هنا أن نسلط الضوء على المرسوم الأخير الذي أصدره بشار الأسد برقم 32 تاريخ 3 أيلول 2023 القاضي بإلغاء محاكم الميدان العسكرية، وإحالة الدعاوى المنظورة أمامها بحالتها الراهنة إلى القضاء العسكري.
تعتبر هذه الخطوة من قبل النظام السوري خطوة متقدمة من وجهة نظر مبدئية، فإنهاء حقبة محاكم الميدان وما كانت ترتكبه من جرائم بحق السوريين، يعتبر خطوة في الاتجاه الصحيح نظرياً، ونقول نظرياً فقط، لأنه لا أحد من السوريين وخاصة من العاملين في القضايا القانونية يعلم عدد الدعاوى المنظورة أمام تلك المحاكم، كون المحاكمات كانت تتم كما ذكرنا بشكل سري، ومن غير الجائز توكيل محامين أمامها، والأحكام الصادرة عنها غير قابلة للنشر أو الاطلاع عليها، وبالتالي كيف لنا أن نعلم في الأيام القادمة بأنه سيتم بالفعل إحالة جميع الدعاوى المنظورة أمامها إلى القضاء العسكري؟ أليس بالإمكان أن تقوم السلطة الحاكمة بإحالة خمس دعاوى فقط من أصل خمسة آلاف مثلاً، ثم تدعي بأنه قد تمت إحالة جميع القضايا إلى القضاء العسكري؟ خاصة وأن سجلات تلك المحاكم غير متاحة للاطلاع عليها لإمكانية التعرف على العدد الحقيقي للقضايا، وقد يظن قارئ هذه السطور بأني أشطح كثيرا في توقعاتي، لكن من خَبِرَ هذا النظام لن يستغرب هكذا توقعات.
كما أنه لا يوجد مبنى يمكن أن نستدل من خلاله على المحكمة أصلاً، وليس بالإمكان التأكد فيما إذا كان سيتم تحويل ذلك المبنى لصالح مؤسسة أخرى حكومية أم لا، كون مكان عقد جلسات المحكمة الميدانية كانت تتم، كما ذكرنا، في مبنى الشرطة العسكرية، فمن يدري لعل "قضاة" المحكمة يستمرون في عملهم المتمثل بالقتل خارج القضاء والاعتقال والإخفاء التعسفي والقسري، دون أن يكون لأحد القدرة على التحقق من صحة تطبيق المرسوم الأخير، وتوقف هؤلاء عن ارتكاب جرائمهم التي أدمنوها لعقود من الزمن في أقبية الشرطة العسكرية.
كل متتبع للشأن السوري يعلم مدى استهتار هذا النظام بالقوانين السورية وعلى رأسها الدستور، الذي تم تعديله في غضون دقائق لتغيير العمر المطلوب لمنصب رئاسة الجمهورية عام 2000 في مسرحية هزلية من قبل مجلس التصفيق السوري، بهدف إتاحة الفرصة لتوريث بشار الأسد الحكم خلفا لوالده، وبأن الغاية من إصدار المرسوم موضوع هذا المقال ليس التخلص من المحاكم الاستثنائية والوصول بسوريا إلى دولة القانون والمؤسسات، لأن القانون والاستبداد لا يجتمعان، ولأن المحاكم الاستثنائية لا تزال موجودة، وفي مقدمتها محكمة مكافحة الإرهاب، حيث ينص مرسوم إحداثها على أن المحكمة لا تتقيد بالأصول المنصوص عليها في التشريعات النافذة وذلك في جميع أدوار وإجراءات الملاحقة والمحاكمة، فإذا كانت المحكمة غير ملزمة بالتقيد بالأصول والقواعد القانونية، فمن سيكون ملزماً بتطبيقها إذاً؟!!! وهذا ما يحثنا على القول بأنها محكمة استثنائية بامتياز.
إصدار المرسوم موضوع هذا المقال هو ليس إلا محاولة يائسة من قبل رأس النظام للتخلص من الانتقادات الموجهة بشكل دائم للنظام القضائي السوري، وخاصة تلك الموجهة لمحاكم الميدان الاستثنائية
والوضع في القضاء العسكري لا يختلف كثيراً عما هو عليه في محكمة مكافحة الإرهاب، حيث يتبع القضاة العسكريون لوزير الدفاع بشكل مباشر، ويحق للأخير إنهاء خدمة أي منهم أو إحالتهم الى الجيش النظامي بجرة قلم، كما أنه لا يجوز المباشرة بمحاكمة أي من ضباط الجيش إلا بعد الحصول على أمر من وزير الدفاع بالملاحقة القضائية، مما يعني تبعية القضاء العسكري المطلقة لوزير الدفاع، وهذا ما يتناقض مع مبدأ استقلالية القضاء وحياده، كما يمكن له مقاضاة المدنيين أيضاً، لكن لكي نكون منصفين، يمكن أن نقول بأنه إذا تم فعلا إلغاء محاكم الميدان وإحالة جميع الدعاوى المنظورة أمامها إلى القضاء العسكري، فسيكون التعرف على مصير السجناء هي الميزة الوحيدة التي يمكن للأهالي أن يجنوها من المرسوم الجديد، كون جلسات المحاكمة أمام القضاء العسكري هي علنية بشكل عام ويمكن للأهالي حضورها.
خلاصة القول، إصدار المرسوم موضوع هذا المقال هو ليس إلا محاولة يائسة من قبل رأس النظام للتخلص من الانتقادات الموجهة بشكل دائم للنظام القضائي السوري، وخاصة تلك الموجهة لمحاكم الميدان الاستثنائية، التي لا تتوافر فيها أدنى المعايير المطلوبة لتحقيق المحاكمة العادلة، لا من حيث طريقة عملها ولا تعيين أعضائها ولا من حيث الإجراءات المتبعة أمامها، وأكاد أجزم بأنها لم تكن تتبع أية إجراءات قانونية متعارف عليها، وإذا كان هذا النظام جاداً بالفعل في النهوض بالمرفق القضائي وتخليصه من العيوب التي تشوبه، فعليه إلغاء محكمة الإرهاب أيضاً وتحرير القضاء العسكري من قبضة وزير الدفاع، وتحرير القضاء العادي من قبضة رئيس الجمهورية الذي يترأس مجلس القضاء الأعلى، وينوب عنه في ذلك وزير العدل، وأخيراً وليس آخراً، إلغاء الحصانة الممنوحة لرجال الأمن عن الجرائم التي يرتكبونها، مع العلم أن تحقيق هذه المطالب من قبل النظام هو مجرد حلم صعب المنال، لأن تحقيقها سيفتح الباب واسعاً أمام عدالةٍ ستطول رأس النظام أولاً.