بتاريخ 27/12/2021 قال مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، "إن إنشاء دستور جديد لسوريا، يجب ألا يهدف إلى تغيير السلطة في البلاد، خاصة أن حكومة النظام راضية عن الدستور الحالي وفي رأيها لا داعي للتعديلات"، وأضاف، "طبعاً إذا أرادت المعارضة إجراء تغييرات يجب النظر في القضايا التي تهمها وطرحها على التصويت، في استفتاء أو للموافقة عليه بطريقة أخرى...".
ما ورد في تصريحات السيد لافرنتييف الأخيرة لا يشكل أي إضافة جديدة للموقف الروسي من النزاع الدائر في سوريا، ولا يضيف شيئاً للمشهد السوري العام سوى استمرار مزيد من الدمار والقتل والتهجير، إذ إن روسيا التي دخلت بكل قوتها العسكرية عام 2015 لمؤازرة النظام السوري المترنح، وجنبته السقوط، هي نفسها التي تدير دفة المفاوضات وأعمال اللجنة الدستورية ومؤتمرات أستانا، وجميعها أضحت كرحلة طويلة مجهولة الوجهة، مع دور مكمِّل وأحيانا هامشي وجزئي للدول الإقليمية الأخرى كتركيا وإيران وبعض الدول العربية، في حين ارتأت الولايات المتحدة البقاء في موقع المتفرج حتى الآن.
فالموقف الروسي هو هو، لم يتغير منذ بداية الثورة السورية وحتى هذا التاريخ، ويبدو أنه سيكمل مشواره على هذا النحو، طالما أن هذا الموقف يُمكّنها من التفرد بالملف السوري، في ظل التردد الأميركي المثير للجدل والموقف الأوروبي الخجول، وطالما أنه سيُمكّنها من استخدام الورقة السورية الضاغطة بقوة في بازارات أخرى، كان أبرزها التمكن من فرض سيطرتها على شبه جزيرة القرم والتحرش العسكري المستمر بأوكرانيا حليفة الأوربيين الاقتصادية، وتدخلها في ليبيا الذي قد يمنحها فرصة الحصول على موطئ قدم لها في الخاصرة الجنوبية للاتحاد الأوروبي، بشكل يفتح أمامها المجال واسعاً لاستعادة دورها المفقود منذ زمن كإحدى القوى الدولية الفاعلة ذات الثقل في النظام الدولي، وهذا يوحي بأن الدب الروسي سيتضرر من إنهاء الأزمة السورية عبر حل سياسي يفضي إلى رحيل الأسد، وربما يكون هذا الضرر أكثر من ذاك الذي سيلحق بالأسد نفسه.
إذاً، من السذاجة القول إن تصريحات لافرنتييف أدهشت السوريين أو القوى الفاعلة المنخرطة في الملف السوري، لكن ما يدعو للاستغراب هو موقف أعضاء اللجنة الدستورية المعارضين لإجرام الأسد، الذين يزعمون أن مشاركتهم فيها تهدف إلى إيجاد حل يخرج سوريا من الجحيم الذي تعيشه منذ أكثر من عقد من الزمن، فبشهادة هؤلاء وحسب اطلاعهم عن كثب على مواقف وفد النظام السوري في اللجنة، فإن هدف الأخير من المجيء إلى جنيف هو تمرير الوقت وإقناع الآخرين بأن عملية التفاوض لا تزال مستمرة للوصول إلى الحل السياسي، الحل الذي يناسب مقاسه ومقاس داعميه الروس، إن تم الوصول إليه أصلاً، لكن بالوقت نفسه وتبريراً منهم لمشاركتهم في هذه الملحمة الدستورية، يُمنُّون النفس ويرغبون بإقناع السوريين بأن الدول الراعية والداعمة لأعمال اللجنة الدستورية، وعلى وجه الخصوص روسيا، ستضغط على نظام بشار الأسد للقبول بنتائج أعمال هذه اللجنة، بحجة أن هذه اللجنة هي من مخرجات مؤتمر سوتشي الروسي بامتياز.
كل المؤشرات التي سبقت ورافقت تشكيل اللجنة وانعقاد جلساتها الدونكيشوتية دلت بوضوح على أن المسألة هي فقط لمنح النظام ومن خلفه الروس الفرصة لتسفيه مضمون القرار 2254، وعدم التوصل إلى النتائج المأمولة منها،
لكن، كل المؤشرات التي سبقت ورافقت تشكيل اللجنة وانعقاد جلساتها الدونكيشوتية دلت بوضوح على أن المسألة هي فقط لمنح النظام ومن خلفه الروس الفرصة لتسفيه مضمون القرار 2254، وعدم التوصل إلى النتائج المأمولة منها، وتجلَّت تلك المؤشرات بتسمية بعض الدول لكثير من أعضاء اللجنة أو على الأقل قبولها بهم وإزاحة أسماء بعض المرشحين، ومن خلال عقد ست جلسات لمدة تزيد عن العامين ولم ينتج عنها كتابة كلمة واحدة في الدستور، مع عدم وجود جدول زمني محدد لأعمالها، وكذلك من خلال نظام عملها الذي اشترط لتمرير أي مادة في "التعديل الدستوري أو الدستور الجديد" موافقة 75 في المئة من أعضائها، وهو ما يرجح كفة النظام في أي تعديل منتظر، وغير ذلك من الأمور التي دلت على عدم جدوى السير بهذا الطريق المسدود منذ البداية، دون أن ننسى بطبيعة الحال الانحراف الكارثي عن مقتضيات القرار الأممي 2254 برمتها، ولا سيما القفز على تشكيل "هيئة الحكم الانتقالي بصلاحيات تنفيذية كاملة"، زد على ذلك الفيتو الروسي الذي استخدم لمرات كثيرة في مجلس الأمن لمنع تمرير أي قرار ينتقد الأسد.
على الرغم من كل تلك المؤشرات وغيرها من الدلائل التي يضيق بذكرها هذا المقال، سنفترض جدلاً أن المشاركين في هذا المسار الدستوري كانوا مقتنعين فعلا بجدواه، وأنه من الممكن أن يخلق بصيص أمل يزيح عن كاهل السوريين سواد الأيام المقبلة، وبأنه من الممكن أن تضغط روسيا على الأسد، كما يدعون، بقبول نتائج أعمال اللجنة الدستورية، إن كان سينتج عنها شيء أصلاً، سواء كانت هذه القناعة مبرَّرَة أم لا، فمن المفترض أن تصريحات مبعوث بوتين إلى سوريا، قد أزالت تلك الغشاوة التي كانت تحيط بالمشهد من وجهة نظر هؤلاء، ودقت ناقوس الخطر بأن الاستمرار في هذا المسلسل وبالطريقة نفسها ووفق قواعد اللعبة عينها، سيؤزم الوضع المأزوم، وسيأتي بنتائج كارثية على السوريين غير المقتنعين أصلاً بأعمال هذه اللجنة، وأكاد أجزم بأن كل السوريين، عدا أعضاء اللجنة الدستورية، لا يعلقون أي آمال عليها وأكثرهم لا يتابع جلساتها، بل أصبحت مواعيد تلك الجلسات موضوعاً للتندر بين السوريين، كما جولات أستانا السبعة عشر ذوات العواقب المأساوية.
فروسيا متمسكة ببقاء الأسد في سدة الحكم ومتمسكة بقواعد هذه اللعبة حتى النهاية، أكثر من الأسد نفسه، والتصريحات الأخيرة لـ لافرنتييف أكدت المؤكد، وهو أن روسيا غير راغبة بإيجاد حل سياسي ينهي معاناة السوريين، طالما أن هذا الحل سيبعد الأسد عن التحكم برقاب السوريين من خلال أجهزته الأمنية والميليشيات العابرة للحدود، وحريص بالوقت نفسه على مصالح الروس رغم أنفه، الأمر الذي يقتضي من المشاركين في اللجنة التفكير جدياً بجدوى السير بهذا المسار الذي يدور حول نفسه، وضرورة اتخاذ موقف حاسم للضغط باتجاه إيجاد جدول زمني واضح وقواعد عمل تضبط عمل اللجنة، وتخلق بعض الأمل بفاعليتها، وإلا سيكون الانسحاب منها أو تعليق المشاركة فيها، الوسيلة المتاحة حالياً لوضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته وليكون بمنزلة الصدمة التي قد تذكره بمهامه بصون حقوق الإنسان وحفظ السلم والأمن الدوليين.
ومع مرور أكثر من سنتين على تشكيل هذه اللجنة وعدم إحراز أي تقدم يذكر في أعمالها، ومع استهتار الروس بمطالب الشعب السوري برحيل الأسد عبر تصريحات مبعوثهم الرئاسي، لم يعد من المقنع أن نسمع من بعض المشاركين في هذا المسار بين الفينة والأخرى، بأنه لا حل أمامنا سوى السير فيه رغم عدم جدواه، أحياناً بحجة عدم الرغبة بقطع قنوات التواصل مع المجتمع الدولي المتقاعس، وأحياناً بحجة ما يسمونها الواقعية السياسية والتي وصلت إلى حد الانبطاحية، فمن غير المعقول الاستمرار بأي عمل ومن أي نوع، طالما أنه يجلب الخسائر تلو الأخرى، فما بالك أن يكون هذا العمل متعلقاً بمصير بلد مدمر وشعب مقهور!.