كان العمال يستخدمون آليات ثقيلة في النهار لحفر حفر وأخاديد، وبعد حلول الظلام، تصل الجثث بالمئات في بعض الأحيان، محملة في سيارات بيك آب عسكرية أو ضمن شاحنات لبرادات مخصصة لنقل المواد الغذائية.
وفي الوقت الذي يقوم فيه ضباط مخابرات النظام السوري بمراقبة الوضع، يتم إلقاء القتلى داخل بطن الأرض حيث يجري دفنهم بالقرب من العاصمة دمشق بحسب ما ذكره رجال عملوا في حفر مقبرتين جماعيتين في سوريا. وفي بعض الأحيان، كان العمال يضغطون طبقات التراب نحو الأسفل على نحو مطبق ومحكم حتى يمنعوا الكلاب من نهش الجثث وإخراجها من مكانها.
طوال الحرب السورية التي امتدت لأحد عشر عاماً، عملت منظمات حقوقية ومنشقون عن النظام في توثيق عمليات قتل المدنيين على نطاق واسع من قبل قوات الأمن التي سعت للقضاء على أي شكل من أشكال المعارضة لديكتاتورية بشار الأسد.
والآن، تمكنت نيويورك تايمز من جمع الأدلة التي تسلط الضوء من زاوية مختلفة على سر من أسرار الحرب استمر لفترة طويلة، إذ ما الذي حدث لجثث الآلاف ممن ماتوا أو قتلوا في معتقلات النظام؟
أدت المقابلات التي أجريت على مدار الأشهر الماضية مع أربعة رجال سوريين عملوا في تلك المقابر الجماعية السرية أو بالقرب منها إلى تفحص الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية، فكشفت كل مفاتيح اللغز هذه عن موقعَين، كلاهما يشتمل على آلاف الجثث بحسب ما ذكره رجال عملوا هناك، ويمكن لهذين الموقعين أن يحتويا على أدلة دامغة حول جرائم الحرب التي ارتكبتها قوات الأسد بحسب ما ذكرته منظمات حقوقية، كما تشتمل على أدلة تثبت التعذيب الممنهج والقتل الذي يطول المعتقلين في سوريا.
لا سلام في سوريا من دون حل لقضية المعتقلين
يقول دياب سرية أحد مؤسسي جمعية تضم المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا سيئ الصيت في سوريا، وأحد من عملوا على تحديد مواقع المقابر الجماعية: "إن لم يتم حل قضية المفقودين والمختفين قسرياً، فلن يكون هنالك سلام في سوريا، إذ في كل يوم تردنا اتصالات من أشخاص يرغبون بمعرفة مكان أبنائهم" ومعظم هؤلاء يقولون: "أريد أن أرى القبر فقط حتى أضع عليه وردة".
بعد الانتفاضة التي أدت إلى الحرب التي بدأت في عام 2011، قام الأسد بتنشيط شبكة الأجهزة الأمنية لديه حتى تقوم بسحق أي معارض وذلك عبر حبس المتظاهرين والناشطين وغيرهم.
وهكذا تعرض ما لا يقل عن 14 ألفاً من هؤلاء المعتقلين للقتل تحت التعذيب، بحسب ما أعلنته وزارة الخزانة الأميركية خلال العام الماضي، إلا أن الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير بكل تأكيد، وذلك لأن أكثر من 130 ألفاً آخرين اختفوا في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام، حيث يعتقد أن معظمهم فارقوا الحياة هناك.
أصر النظام السوري على إنكار قتله للناس في المعتقل، إلا أن منظمات حقوقية وثقت ممارساته على نطاق واسع، وأهم مجموعة أدلة قدمت حتى الآن هي تلك التي جمعها مصور لدى الشرطة السورية اسمه الحركي قيصر، فر من البلاد في عام 2013 وبحوزته صور لأكثر من ستين ألف جثة بعضها يحمل آثار تعذيب.
لا يمكن عد الجثث الموجودة في المقابر الجماعية والتعرف إلى هويتها إلا بعد نبش تلك المقابر، إلا أن ذلك لا يمكن أن يحدث طالما بقي الأسد في السلطة، وذلك لأن روسيا التي تعتبر أقوى حليف لديه ما تزال تدعمه، كما لم تجر محاسبته أو محاسبة أي من كبار المسؤولين لديه عن الفظائع التي ارتكبوها مثل استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبهم.
وللفت الأنظار إلى تلك الفظائع، أتت فرقة العمل السورية للطوارئ، وهي منظمة للمناصرة، بأحد هؤلاء الرجال الذين أجرت معهم صحيفة نيويورك تايمز مقابلات، إلى واشنطن وذلك ليتحدث مع عدد من أعضاء الكونغرس وغيرهم حول تلك المقابر الجماعية.
معظم الجثث التي تعود لمن ماتوا في المعتقل ترسل إلى مشاف تابعة للنظام، حيث يتم تسجيل الوفيات بحسب ما ورد في تقارير صادرة عن منظمة هيومن رايتس ووتش وغيرها. وقد وصف الرجال الأربعة الذين أجريت معهم مقابلات ما يحدث بعد ذلك.
جميع هؤلاء الرجال عملوا في تلك المقابر الجماعية أو بالقرب منها، وتلك المقابر تقع بالقرب من دمشق، وكل رجل من هؤلاء الرجال عاين الجهود التي يبذلها النظام للتخلص من تلك الجثث. وقد أصبح رجلان منهما لاجئين حالياً في ألمانيا، وأحدهم يعيش في لبنان، في حين بقي الأخير في سوريا، ولهذا تحدث ثلاثة منهم بشرط عدم ذكر أسمائهم خوفاً من انتقام النظام.
لم تستطع الصحيفة وحدها أن تثبت كل التفاصيل التي وردت في روايات هؤلاء الرجال، والتي شملت الأعداد الكلية للجثث التي تذكروا أنهم رأوها، إذ لم ير كل منهم سوى جزء من عمليات الدفن التي يمارسها النظام، والتي ترى منظمات حقوقية بأنها تكررت على الأرجح في مواقع أخرى لمقابر جماعية أقيمت في أرجاء مختلفة من البلاد.
إلا أن رواياتهم أتت منسجمة ومتوافقة إلى حد كبير بعضها مع بعض ومع التقارير التي قدمتها منظمات حقوقية عملت على توثيق حالات الوفاة التي شاعت في المعتقلات كما وثقت عمليات نقل الجثث إلى المشافي.
الشاهد الأول
أدلى أحد الرجال الذين أجريت مقابلات معهم بشهادته حول ما رآه في المحاكمة التاريخية التي أقيمت بألمانيا وذلك حول جرائم الحرب في سوريا، إذ انتهت تلك المحاكمة في هذا العام بإصدار حكم بالسجن المؤبد على مسؤول سوري سابق في مجال المخابرات بعد إدانته بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ذكر ذلك الرجل أنه عمل قبل الحرب لدى الإدارة المحلية بدمشق التي تشرف على عمليات دفن المدنيين، وفي أواسط عام 2011، جندته المخابرات السورية للتخلص من الجثث التي تأتي من المشافي بعد نقلها من المعتقلات بحسب ما ذكر، وأضاف أنه مارس هذا العمل طوال ست سنوات في موقعين يضمان مقابر جماعية.
أحد الشهود على وجود مقابر جماعية في سوريا بعدما أصبح لاجئاً في ألمانيا
يقع الموقع الأول للمقابر الجماعية حيث عمل فريقه هناك خلال الفترة الواقعة ما بين أواسط عام 2011 وحتى مطلع عام 2013، في مقبرة نجها المدنية، وهي قرية تقع جنوبي دمشق وفقاً لما ذكر. كان هذا الرجل يقوم في بداية الأمر بالإشراف على عمل بعض العمال الذين يقومون بدفن أعداد قليلة من الجثث، ولكن مع تطور النزاع وتحوله باتجاه العنف، زادت الأعداد، فتحول هذا الرجل إلى ما وصفه بترس من التروس التي تعمل ضمن آلة الموت داخل هذا النظام البيروقراطي.
أعطوه سيارة نقل بيضاء من نوع نيسان مزينة بصور الأسد، مع بزة عسكرية وتصريح يخوله العبور من نقاط التفتيش. وهكذا أخذ قبل طلوع الفجر يقود تلك السيارة حاملاً معه أكثر من عشرة عمال نحو تلك المقابر الجماعية.
وفي حالات أخرى منفصلة، كانت شاحنات تبريد كبيرة مخصصة لنقل المواد الغذائية تأتي بالجثث من المشافي إلى القبور، بحسب ما ذكر ذلك الرجل، وعند وصولها، يقوم فريقه برمي الجثث في باطن الأرض ودفنها، إلا أن معظم تلك الجثث كانت عليها آثار لرضوض وتقرحات كما كانت أظافرها مقتلعة، بحسب وصفه، وبعضها كان قد بدأ بالتحلل، ما يشير إلى مرور وقت على وفاة أصحابها.
لم يقم هذا الرجل بدفن تلك الجثث بنفسه، بل كان يشرف على العمال ويتسلم الأوراق من المشافي التي يرد فيها عدد الجثث القادمة من كل معتقل، فكان يسجل تلك الأرقام في سجل موجود في مكتبه، إلا أنه ترك تلك الأوراق هناك عندما هرب من سوريا في عام 2017.
وفي مرحلة من المراحل خلال السنوات الست التي أمضاها وهو يعمل في تلك القبور الجماعية، كان فريقه يفرغ شاحنتين مرتين بالأسبوع، إذ كانت كل شاحنة تحمل ما بين 150-600 جثة. كما كانت عشرات الجثث تصل إلى فريقه كل أسبوع من سجن صيدنايا، الذي وصفته منظمة العفو الدولية في إحدى المرات بالمسلخ البشري، وذلك لتفشي التعذيب فيه بين صفوف المعتقلين الذين يكون مصيرهم القتل في معظم الأحيان.
كان من الواضح بأن الجثث التي تصل من صيدنايا تعود لأشخاص توفوا منذ مدة قريبة، وقد أضاف هذا الرجل أن بعضاً من تلك الجثث كانت تظهر عليها علامات تشبه آثار حبل حول منطقة العنق أو جروحاً حدثت بفعل طلق ناري. وفي بعض الأحيان كانوا يدفنون الجثث في خنادق يغطونها بالتراب، وفي أحيان أخرى، كانوا يجمعون ما يصل إلى ثماني جثث في قبور مخصصة لجثة واحدة.
تظهر صور الأقمار الصناعية الملتقطة لمقبرة نجها خلال تلك الفترة قبوراً ممتلئة، كما تظهر صورة ملتقطة في عام 2012 شاحنة وجهت خلفيتها نحو القبور، ومركبة بيضاء ظهرت بالقرب منها، يرجح أنها سيارة نقل.
صورة ملتقطة بالأقمار الصناعية تعود لأيار 2012 تظهر فيها مركبات عديدة في مقبرة نجها بينها سيارة النقل البيضاء والشاحنة الكبيرة وأخرى صغيرة
الشاهد الثاني: إياد الغريب
خلال المحاكمة التي جرت في ألمانيا لضابط المخابرات السوري السابق الذي أدين بجرائم ضد الإنسانية، أدلى شخصان آخران بشهادتيهما حول القبور الجماعية الموجودة في نجها.
أحدهما إياد الغريب وهو مسؤول سوري سابق أدين خلال العام الماضي بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وذلك لقيامه بسوق المتظاهرين الذين تم اعتقالهم إلى مقر أمني من المعروف عنه أنه يمارس التعذيب. وقد ذكر إياد أمام المحكمة أن القتلى من المعتقلين كانوا يدفنون في نجها في حال ظهرت على أجسادهم آثار للتعذيب.
الشاهد الثالث: سائق الجرافة
ثمة شخص آخر أجرت صحيفة نيويورك تايمز مقابلة معه عمل سائق جرافة في مقبرة نجها لمدة سبعة أشهر خلال عام 2012، وقد ذكر ذلك الرجل بأن ضباط مخابرات كانوا يشرفون على عمليات الدفن طلبوا منه أن يحفر حفراً كبيرة مربعة الشكل.
وقد وصف هذا الرجل أيضاً شاحنات التبريد التي كانت تصل إلى الموقع مرات عديدة خلال الأسبوع طوال الفترة التي عمل فيها هناك، لتنقل مئات الجثث في كل مرة تأتي فيها، حتى يقوم العمال بدفنها في الأرض. وذكر هذا الرجل بأنه كان يغطي تلك الجثث بالتراب، وفي بعض الأحيان كان يمرر جرافته فوق موقع القبر حتى يرص التراب بشكل أكبر ليمنع الكلاب من نبش القبور وإخراج الجثث.
يتذكر هذا الرجل رائحة الموت التي كانت قوية جداً حتى أنها كانت تصيبه بالإغماء.
شاحنة البوظة
وفي إحدى المرات وصلت إليه سبع جثث، اثنتان منها تعودان لامرأتين وأخرى لطفل، وقد نقلت شاحنة مخصصة للبوظة تلك الجثث، إلا أن منظر تلك الجثث ظلت في باله حتى بعد مرور عقد من الزمان على مشاهدتها، وبعد وصوله إلى ألمانيا التي أصبح فيها لاجئاً اليوم، ويعلق على ذلك بقوله: "لم أعد أطيق تناول البوظة بعد ذلك".
في مطلع عام 2013، ذكر الرجل الذي كان يقود سيارة النقل البيضاء أن النظام افتتح مقبرة جماعية جديدة بالقرب من قاعدة القطيفة التابعة للجيش السوري، والقطيفة مدينة تقع شمال دمشق.
هناك، تولت حفارة آلية حفر خنادق يصل طولها إلى 100 ياردة (أي نحو 91 متراً)، وهكذا أصبحت شاحنات التبريد عند وصولها، تلقي بالجثث الموجودة فيها عبر إمالة سطحها عند أحد أطراف الخندق ورمي الجثث لتدفن فيه. وفي حال بقيت أي جثة عالقة في تلك الشاحنات، عندئذ يسحبها العمال نحو الخندق، حيث تقوم الحفارة بدفن كل الجثث معاً.
صورة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية تظهر مقابر جماعية في منطقة القطيفة تعود لأيلول 2019
أما الدفعة التالية من الجثث فقد كانت تذهب إلى القسم التالي من ذلك الخندق، بحيث يجري تكرار تلك العملية المرعبة إلى أن يمتلئ الخندق، بحسب وصف ذلك الرجل، وبعدئذ تحفر الحفارة خندقاً جديداً.
بناء على ما ذكره هذا الرجل، حددت صحيفة نيويورك تايمز هذا الموقع وتفحصت صور الأقمار الصناعية التي تعود لتلك الفترة، والتي ظهرت فيها خنادق طويلة امتلأت بالتراب على دفعات. كما أظهرت بعض الصور حفارة في ذلك الموقع، إلى جانب ظهور سيارة النقل البيضاء في إحدى تلك الصور.
تعرف وليد هاشم وهو جندي سابق خدم في منطقة القطيفة قبل أن ينشق بنهاية عام 2012، على الموقع ذاته وذكر أنه مقبرة جماعية، إذ خلال مقابلة أجريت معه عبر الهاتف ذكر وليد أن الموقع كان ميداناً للرماية ثم حفرت الدولة قبوراً فيه لدفن جثث من يموتون في السجن.
تخضع تلك المنطقة لحراسة مشددة لإبعاد الناس عنها بحسب ما ذكره وليد، إلا أن جميع من يخدمون في تلك القاعدة يعرفون الغرض من تلك المقبرة، إذ يقول وليد: "لم نكن نتحدث أو نسأل عنها، إلا أن كل من عملوا هناك كانوا يعرفون المقبرة".
المصدر: نيويورك تايمز