من يجرؤ من السوريين أن يكون فنان الممكن؟

2024.07.23 | 06:11 دمشق

آخر تحديث: 23.07.2024 | 06:11 دمشق

54333333333333
+A
حجم الخط
-A

يُنسب إلى "تيموجين" الذي أصبح فيما بعد "جنكيز خان" صاحب أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، أنه بعد أن هاجمت إحدى القبائل المغولية قبيلته واختطفت زوجته الجميلة، فرّ هاربًا وهو يقول: "المغفل وحده من يخوض معركة يعلم سلفًا أنها خاسرة". ربما هذا ما قصده صاحب مقولة "السياسة فن الممكن".

معاهدة "برست – ليتوفسك"

في تاريخ أقرب، 1918، تذكر المصادر التاريخية عن سلوك مشابه للزعيم السوفييتي "لينين" خلال التوقيع على معاهدة "برست – ليتوفسك". في التفاصيل التي تعود إلى الحرب العالمية الأولى، بعدما استحوذ "البلاشفة" على السلطة، كان الموقف العسكري الروسي حرجًا، حيث كانت القدرة القتالية للجيش الروسي متدهورة، ومن الناحية الفعلية، تلاشى الجيش الروسي كقوة قتالية بشكل كبير بعد ثورة نوفمبر.

عرض الروس انسحابهم من الحرب، وعرض الألمان شروطهم المذلة التي أبكت المفاوض الروسي. شهد الحزب الشيوعي البلشفي انقسامًا عميقًا بخصوص قبول الشروط الألمانية، إلا أنه بعد أخذ ورد وتطورات دراماتيكية، تبنى الحزب الشيوعي موقف "لينين" الذي جادل بقوة لصالح قبول الشروط الألمانية دون تأخير. وهكذا تنازل الروس لألمانيا عن ثلاثة أرباع الحديد والصلب الخاص بروسيا، و26% من شبكة السكك الحديدية، و26% من سكانها، وكثير من الأراضي الخصبة بموجب هذه المعاهدة.

"بوخارين" الأحمق

هناك من طور مقولة "السياسة فن الممكن" وأتبعها بعبارة "لكن الذين يستطيعون تمييز الممكن قليلون جدًا". رغم ذلك، تبدو المقولة غير مكتملة، فعلى افتراض أننا عثرنا على من يستطيع تمييز الممكن؛ هل يستطيع هذا الشخص أو هذه الجهة اتخاذ قرارات جريئة بناء على رؤيتهم للممكن، ضاربين عرض الحائط بكل المخاطر التي قد تنالهم من النخب المزاودة التي قد تسارع لتخوينهم والإطاحة بهم؟ يذكر التاريخ قديمه وحديثه أن كثيراً من القادة راحوا ضحية تبنيهم لمثل هذا النوع من المواقف.

وبالعودة إلى معاهدة "برست ليتوفسك"، لا بد من التعريج على موقف الأحمق "نيكولاي بوخارين" الذي كان ضد فتح مفاوضات سلام مع ألمانيا، وطالب بوقف التفاوض مع ألمانيا الإمبريالية وإنشاء جيش ثوري من المتطوعين فورًا. والسؤال هنا: ماذا لو كان "بوخارين" هذا على درجة من القوة والنفوذ تتيح له فرض رؤيته على "لينين"؟ أغلب الظن أننا كنا سنتحدث اليوم عن معركة سُحق فيها الروس وقُضي على الثورة البلشفية بعد أشهر من استيلائها على السلطة.

في أسوأ الأحوال، يستطيع القائد الذي يستطيع تمييز الممكن أن ينقذ ما يمكن إنقاذه؛ على العكس تمامًا من القائد المتهور الذي قد يطيح بما لديه من مكاسب نتيجة لتقديره الخاطئ.

ماذا يقول التاريخ؟

يروي التاريخ أن أغلب من أتقنوا "فن الممكن" استطاعوا العودة وبقوة. فالمسلمون فتحوا مكة بعد صلح الحديبية، و"تيموجين" أصبح "جنكيز خان" صاحب أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ، والاتحاد السوفييتي ساهم بشكل فعال في إسقاط ألمانيا النازية وأصبح من بعدها أحد قطبي القوة في العالم. وبعد أن ضُربوا بالقنابل الذرية، اقتنع اليابانيون أنهم يجب أن ينصاعوا تمامًا لما تمليه عليهم أميركا، فعادوا.

في أسوأ الأحوال، يستطيع القائد الذي يستطيع تمييز الممكن أن ينقذ ما يمكن إنقاذه؛ على العكس تمامًا من القائد المتهور الذي قد يطيح بما لديه من مكاسب نتيجة لتقديره الخاطئ، أو نتيجة لممالأته جموعَ الغوغاء التي تبني تصوراتها اعتمادًا على عواطفها محيّدة العقل والمنطق تحييدًا تامًا. ولعل التاريخ ممتلئ بالأحداث التي تثبت ذلك، والمثال الأبرز في هذا السياق هو رفض العرب للقرارات الدولية بخصوص القضية الفلسطينية، ومن ثم عودتهم بعد عشرات السنين للمطالبة بتطبيقها.

هل يوجد في السوريين من يتقن فن الممكن؟

إذن، والحال كذلك؛ "فالسياسة فن الممكن ولكن الذين يستطيعون تمييز الممكن قليلون جدًا، ومن بين هؤلاء؛ قلة من تتجرأ على اتخاذ قراراتها بناء على رؤيتها للممكن".

ومرة أخرى، يروي التاريخ أنه ليس "بوخارين" وحده من اعترض على رؤية "لينين" للممكن، وإنما هي الحالة الطبيعية المرافقة لمثل هذه القرارات التاريخية، لكن القادة أصحاب فن الممكن كانوا دومًا على درجة عالية من النفوذ والقوة التي تمكنهم من اتخاذ هذا النوع من القرارات.

لا أحد يعلم إن كان لدى السوريين من يتقن فن الممكن ما دامت النخب التي تفضل ممالأة عواطف الجماهير وثقافتها السحرية، وتترصد لأصحاب الرؤية العقلانية كل مرصد.

يقول الدكتور عصام الخواجة: في كل المجتمعات توجد جموع من الجماهير تتبنى الأفكار السحرية (كل ما هو بعيد عن العلم والمنطق)، ولكن الفارق بيننا وبينهم أن هذا النوع من الخطاب والأفكار يوجد عندهم على المستوى الشعبي، أما عندنا فهو متبنى من قبل النخب وعلى أعلى المستويات. من هنا لا أحد يعلم إن كان لدى السوريين من يتقن فن الممكن ما دامت النخب التي تفضل ممالأة عواطف الجماهير وثقافتها السحرية، وتترصد لأصحاب الرؤية العقلانية كل مرصد.

بعد محاولة الاغتيال التي تعرض لها مرشح الحزب الجمهوري في أميركا الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب"؛ أطلق أحد النواب الديمقراطيين تصريحًا اعتبر فيه أن ما حصل مع ترامب هو مجرد تمثيلية الهدف منها كسب تعاطف الجمهور الأميركي، لكنه سرعان ما تراجع عن هذا التصريح معتذرًا عما بدر منه. وكان هذا برهانًا أن الخطاب الخرافي في الغرب ترفضه النخب، بل وتحاصره وتدفع بصاحبه إلى الاعتذار. أما والحال عكس ذلك، فمن من السوريين يجرؤ أن يكون فنان الممكن؟