في عام 1918 زار دمشق وفد من "الوكالة اليهودية" في مهمة رئيسية لاستقطاب اليهود السوريين المتمركزين في دمشق إلى الحركة الصهيونية عبر إغرائهم بالوظائف والمال، ولا سيما أن البلاد السورية من أقصاها مرسين وأضنة إلى أقصاها العقبة وإيلات كانت ترزح تحت وطأة مجاعة عصفت ببر الشام نتيجة جور الضرائب وهجوم الجراد وحصار سفن الإنكليز والفرنسيين شواطئ الشام في أثناء الحرب الكونية الأولى 1914-1918.
رفض يهود سوريا عرض الوكالة اليهودية ولم يستسلموا إلى إغراءاتها ووعودها المالية فعاد وفدها من دمشق خالي الوفاض، لكن حاييم وايزمان المشرف على ملف يهود سوريا لم يستسلم، وعلى الفور وضع خطة لتليين رؤوس يهود دمشق ودفعهم بالقوة لقبول خطط الوكالة، ولكن بهدوء وباستخدام تكتيك التجويع.
جاءت الحرب الكونية الأولى فساءت أحوال يهود دمشق وقضت على ما تبقى من أرزاقهم وحصدت أرواحا كثيرة من شبابهم إذ كانوا يقاتلون في صفوف الجيش العثماني مثل بقية السوريين إضافة لهجرة ما يقرب من 10 بالمئة من شباب اليهود قبل الحرب بحثا عن عمل أفضل لتحسين أوضاعهم المعاشية، الأمر الذي "اضطر حاخام الشام يعقوب دانون لطلب العون المالي من الدكتور الألماني الصهيوني آرثر لوبين ممثل الوكالة اليهودية في يافا والمسؤول عن توزيع المعونات المرسلة من الولايات المتحدة إلى يهود الشرق الأوسط لكن طلب حاخام دمشق قوبل بالرفض، لأن أبناء رعيته كانوا بعيدين كل البعد عقائديا وتنظيميا عن المشروع الصهيوني" وكانوا بالتالي "لا يستحقون عونا ماديا من صهاينة أميركا" حسب رأي لوبين.
المشهد الذي عرفته دمشق في عام 1918يتكرر اليوم بعد مئة عام وعاد مشهد الأطفال في العاصمة دمشق الذين ينبشون حاويات القمامة بسبب سياسة التجويع
يقول داود يلين أن من بقي من يهود دمشق كانوا على حافة القبر ولا خسارة في فقدانهم لأنهم لا يتكلمون اللغة العبرية ويقيمون صلواتهم ويديرون أمور الطائفة إما بالتركية أو بالعربية وهو أمر مرفوض ومستهجن بالنسبة إلى الحركة الصهيونية، لكن الحاخام دانون لم ييْئس فكرر طلب المساعدة من السفير الأميركي في إسطنبول، وتكرر الرفض، بحجة أن يهود دمشق من السكان الأصليين ولا يوجد بينهم أي مهاجر يهودي أوروبي يستوفي شروط المساعدة المادية، كما ينقل سامي مروان مبيض في كتابه" غرب كنيس دمشق" ويضيف الأستاذ مبيض "كان سبب الرفض الحقيقي في المرتين إغراق يهودي دمشق في مزيد من الفقر والقهر والحرمان كي لا يجدوا معينا ومعيلا أمامهم إلا الحركة الصهيونية ". وهو ما يذكّر بسياسات الاستقطاب والعزل والتجويع التي مارسها نظام الأسدين بحق فقراء الريف الساحلي عموما والعلويين خصوصا ليبقوا تحت جناحه.
بعد أن تفشت الكوليرا في دمشق أغلق جمال باشا المدارس فتشرد أطفالها بمن فيهم أطفال اليهود في الشوارع ولا شك أن الفقراء منهم والأيتام كانوا يلجؤون لتأمين قوت يومهم إما لاستعطاف المارة أو للنبش في حاويات القمامة.
هذا المشهد الذي عرفته دمشق في عام 1918يتكرر اليوم بعد مئة عام، وقد يكون ذا دلالة أن مجلس الأمن الدولي أصدر عام 2018 قرارا اعتبر فيه استخدام التجويع كسلاح في النزاعات "جريمة حرب" إذ إنه ابتداء من 2018 وحتى اللحظة في عام 2024 يتكرر يوميا مشهد الأطفال في العاصمة دمشق الذين يعملون في جمع النايلون مترافقا مع مشاهد أطفال ينبشون القمامة.
إذ يهدّد الجوع 13 مليون سوري داخل البلاد بحسب صحيفة "فلت welt" الألمانية، وفي شمال غربي سوريا بلغت نسبة من يهددهم الجوع 40 بالمئة، ويعاني 8 من كل 9 أطفال سوريين من عدم حصولهم على احتياجاتهم الغذائية، كما أن ربع أطفال سوريا يذهبون إلى المدرسة من دون تمكنهم من تناول وجبة الإفطار وربع السوريين يعيشون في فقر مدقع بحسب تقرير للبنك الدولي صدر أواخر شهر أيار/مايو المنصرم. وهو ما يعني أن نصف سكان سوريا وصلوا اليوم إلى مرحلة الطوارئ في "مقياس انعدام الأمن الغذائي"، وهي المرحلة التي تأتي مباشرة قبل مرحلة المجاعة.
وعلى الرغم من أن القوانين الدولية تمنع "التجويع المتعمد للمدنيين سواء من خلال فرض الحصار أو تدمير المحاصيل أو منع وصول المساعدات الإنسانية". فهو عين ما فعله نظام الأسد بشكل منتظم، في حصار الغوطة، ومناطق أخرى، وما فعله فصيل جهادي متشدد في ريف حلب، كان نظام الأسد رائد حصار التجويع إذ حاصر مناطق كاملة تضم مدنا وقرى في ريف دمشق، خصوصا، لسنوات بلغت أربعا، عدى عن حرق المحاصيل الزراعية أو إتلافها.
وبعد أن وضعت الحرب أوزارها رسميا سنة 2018 يتكرر حصار السوريين ومنعهم من الطعام والماء والكهرباء، بطرق مقننة، وهو ما تفعله بطريقة غير مباشرة القوانين الأميركية ونظام الأسد بالتضامن.
لئن كان الجراد والنهب من أجل الحرب سبباً مهماً في المجاعة خلال "السفر برلك"، فإن أسباب المجاعة اليوم تتمثل أيضا في حصار دولي أميركي أوروبي ونهب داخلي أسدي. فالأسد ونظامه النهبوي هم الجراد الذي لا يشبع الذي يحيل الأرض يبابا ويهدم العمران.
وعود على بدء فقد يستغرب بعضنا تعامل الوكالة اليهودية مع يهود دمشق العرب على هذه الشاكلة، إذ إن هذا السلوك مخالف للرؤية النمطية لليهود التي نشرتها الشعبوية الإعلامية والدعاية السياسية سواء كانت من جهة الأنظمة أم الطبقة المثقفة، التي لا تميز بين اليهود عربا أم فرسا أم أوروبيين، والباحث في تاريخ المنطقة سيجد أمثلة على استغلال المنظمة الصهيونية لليهود العرب وبعض يهود أوروبا من أجل مصالح دولية، إذ إنها مقابل منح اليهود دولة قومية استخدمتهم لتحقيق مصالحها بالتضامن مع السياسة الاستعمارية البريطانية أولا ثم بالتضامن مع النازية وأخيرا مع أميركا لاحقا وجعلت منهم منصّة متقدمة لأوروبا أو جزيرة "يهودية" أوروبية في بحر عربي لخدمة المصالح الاستعمارية النخبوية الأوروبية، فالمنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية هما جزء من التركيبة الاستعمارية الغربية.
ولن نعدم مثالا حيا يجري منذ 8 أشهر أمام أعين العالم أجمع، بعيد استخدام اليهود كبش فداء من سياسي يهودي، إذ ها هو نتنياهو يدير معركة المحتجزين الإسرائيليين لدى حماس بطريقة أسوأ وأخطر مما فعلته الوكالة اليهودية بيهود دمشق، إذ يتركهم كبش فداء لسياسته وإطالة عمر حكومته ليُقتلوا يوما بعد يوم واحد إثر آخر.
وموقف الوكالة اليهود قبل قرن من الزمن وتكراره في حالة نتنياهو ومعركة الأسرى اليوم يذكرنا باستخدام نظام الأسدين الأب والابن للطائفة العلوية ككبش فداء في سبيل وصولهما للسلطة والبقاء فيها وتمويه ذلك بدعاية فاقعة تظهرهما كمؤسسين "للنظام العلوي".
والغريب أن يكون أحفاد هؤلاء الذين عاشوا المجاعة والأوبئة في الحرب العالمية الأولى يعملون على تجويع السوريين من دون قصد منهم أو ربما بقصد إذ هم يعتبرون كل سوري بقي في دمشق أو حلب أو حمص أو في أي مكان من مناطق النظام في سوريا حليفا للأسد يستحق المعاناة والجوع فيجردون سيف القوانين الأميركية التي تطول الأسد ونظامه شكلا إنما تضر بالسوريين فعلا فتزيدهم فقرا وجوعا، والغريب أن هذه القوانين تلقى دعما لا نظير له من الكونغرس الذي هو ذاته ما يزال يدعم إسرائيل في حربها على أهالي غزة بحِزم مساعدات بلغت 20 مليار دولار لتمويل دفعات من السلاح تحوي ذخائر وقنابل أميركية وزن بعضها يبلغ أكثر من الطن. ومن ضمن أعضاء الكونغرس هؤلاء من هددوا محكمة العدل الدولية لأنها تداولت بخصوص مذكرة لاعتقال نتنياهو.
فهل يكون من يؤيد قتل أهالي غزة مهتما في ذات الوقت بمعاقبة بشار الأسد، ألا يعلم اللوبي السوري الأميركي أن من يقتل أهالي غزة لا يمكن أن يهتم لمصير أهالي دمشق وسوريا، سواء ماتوا من الجوع والمرض أم ماتوا من الأسد؟
والحقيقة فإن أحوال أهالي دمشق وعموم السوريين قد تسوء إلى درجة يمكن القول معها إن السوريين كلهم ربما يصبحون خلال عام أو عامين على حافة القبر لا قدر الله. كما كان حال يهود دمشق قبل قرن من الزمن، في حال استمرت المعادلة الأميركية الحالية التي تصر على معاقبة الأسد بمحاصرة السوريين اقتصاديا، علما أن العقوبات الاقتصادية لم يسبق لها أن أسقطت رئيسا أو نظاما، لكنها بالتأكيد تجوّع شعوبا وتسهم في تفكيك بلدان.
ولئن كان الجراد والنهب من أجل الحرب سبباً مهماً في المجاعة خلال "السفر برلك"، فإن أسباب المجاعة اليوم تتمثل أيضا في حصار دولي أميركي أوروبي ونهب داخلي أسدي. فالأسد ونظامه النهبوي هم الجراد الذي لا يشبع الذي يحيل الأرض يبابا ويهدم العمران.
صحيح أن التاريخ يعيد نفسه على شكل ملهاة، لكنه في سوريا يعيد نفسه على شكل مأساة أشد وأفدح؟!