المتابع لما يحصل في درعا جنوبي سوريا من أحداث أمنية تنتابه الحيرة مما وصلت إليه المحافظة، أو بالأحرى مما أوصلها النظام إليه. أصبحت المحافظة بعد سنوات من استعادة النظام السيطرة عليها مرتعاً لإنتاج وتصدير المخدرات إلى الأردن. يكاد لا يغيب اسم المحافظة عن مواقع الأخبار أسبوعياً من عملية تهريب، أو اغتيال، أو خطف، وحديثاً أيضاً اشتباكات مع قوات الحرس الأردني مع المهربين، وقصف من الطيران الأردني لمناطق محددة يُعتقد أنها أوكار تجّار المخدرات.
يعبر المهرّبون بحقائب على ظهورهم تحتوي 25 كيلوغراما من حبوب الكبتاغون الحدود إلى الأردن، مقابل حصولهم على مبالغ متفاوتة تقدر ما بين 5 إلى 10 آلاف دولار. باتت هذه التجارة تُدر مليارات للنظام الذي حوّل سوريا إلى "دولة مخدرات" توزّع هذه المادة إلى كل أنحاء المعمورة، وتشير تقديرات أن قيمة صادرات سوريا السوقية من الكبتاغون في العام 2020 وصلت لما يقل عن 3.46 مليارات دولار.
عبثاً أحاول أن أتذكر منجزات النظام في درعا، منذ اعتلائه السلطة إلى تاريخ الثورة عندما أعلن سكانها الطلاق معه. لا أتذكر بناءً أو معلماً أو رمزاً بُني في هذه الفترة، لا أتذكر صناعةً وزراعةً وحرفةً تمت تنميتها، في المقابل أتذكر كيف اغترب أهالي المحافظة إلى دول الخليج العربي وجمعوا ثروات وخبرة. ورثنا آثاراً وأبنيةً ومعالم وصلت إلينا قبل ألفي عام في العصر الروماني، بعض تلك الآثار تم طمسها في عهد النظام، ورثنا حكايات وقصصاً حدثت في هذه البقعة عن سرير الملكة، وسلة روما، والقمح، والراهب بحيرى، والقوافل التجارية، والمسرح الروماني، والقنوات المائية، والأرض الخصبة، والمعارك والبطولات التي جرت في عهد الفتوحات الإسلامية وغيرها.. عبثاً أحاول أن أتذكر شيئاً جميلاً قام به النظام في درعا، نذكره بعد مئات السنوات.
خلال الحكم الروماني للمنطقة ولاحقاً بيزنطة كانت "أدرا" أو "إذرعي" أو "أذرعات" كما تسمى قديماً مركزاً مهماً بسبب موقعها الاستراتيجي على الطرق التجارية
تشير بعض الروايات أن أول من استقرّ في حوران هم الأموريون في الألف الثالث قبل الميلاد، وتعاقب على حكمها الآراميون، والآشوريون، والفرس، والسلوقيون، والرومان، والعرب. خلال الحكم الروماني للمنطقة ولاحقاً بيزنطة كانت "أدرا" أو "إذرعي" أو "أذرعات" كما تسمى قديماً مركزاً مهماً بسبب موقعها الاستراتيجي على الطرق التجارية التي تربط بين الأراضي الرومانية والشرق الأوسط، إذ تقع على طريق الحرير، ونقطة توقف للقوافل التجارية وهو ما جعلها مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً في المنطقة. وتعد مركزاً إدارياً أيضاً تضم عدداً من المباني العامة والمنشآت الإدارية المسؤولة عن الشؤون المحلية وجمع الضرائب، وضمّت حامية عسكرية لحماية الحدود الجنوبية للإمبراطورية الرومانية وضمان سلامة الطرق التجارية.
تشهد الآثار التاريخية التي لا تزال قائمة حتى اليوم من أقواس، وجسور، وحمامات، ومنازل، وطرق، ومسارح، ومعابد وحمامات، ومدافن، تشهد على المستوى العالي من التطور العمراني والمعماري الذي وصلت إليه هذه البقعة الجغرافية في تلك العصور، ويعكس أيضاً الأهمية الثقافية والاجتماعية في تلك الفترة، وقد تشير إلى حالة الازدهار التي كان يعيشها السكان آنذاك. استطاعت أن تحجز لنفسها مكانة مرموقة في سلم الحضارة.
عُرفت بخصوبة أراضيها الزراعية وإنتاجها الوفير من القمح والخضراوات وأطلقت عليها "سلة" الإمبراطورية الرومانية لدورها الحيوي في توفير الغذاء لأنحاء متفرقة من الإمبراطورية. استخدم الرومان تقنيات متقدمة في الري، مثل القنوات والسدود لزيادة الإنتاج الزراعي والمساهمة في تحسين جودة القمح، واعتبر القمح مادة أساسية للغذاء حيث كان يستخدم لإطعام السكان والجيش، وعنصراً حيوياً في الاقتصاد الروماني لكونه سلعة تجارية.
سلكت القوافل التجارية شبكة من الطرق لنقل القمح والبضائع من "أدرا" وصولاً إلى روما، شملت النقل البري إلى موانئ البحر المتوسط ليتم شحنها إلى موانئ قريبة من روما، وسلكت أيضاً طريقاً برياً عبر الأناضول إلى البلقان فأوروبا، وبراً إلى الأردن وفلسطين ومصر إلى قرطاج.
تباركت المنطقة أيضاً بحادثة مرور النبي محمد ﷺ في سن الـ12 على رأس قافلة تجارية متجهاً إلى الشام وفي أثناء توقف القافلة في مدينة بصرى الشام التقى الراهب بحيرى بالنبي، ولاحظ عليه علامات النبوة. وبعد انتشار الدعوة الإسلامية شهدت المنطقة في العام 636 ميلادي أهم المعارك في تاريخ الفتوحات الإسلامية ونقطة تحول حاسمة للأمة الإسلامية. وقعت معركة بالقرب من نهر اليرموك بين قائد الجيوش الإسلامية خالد بن الوليد، وجيوش بيزنطة بقيادة هرقل وفتح انتصار المسلمين في هذه المعركة الباب إلى فتح بلاد الشام بأكملها، وتحرير المسجد الأقصى وانسحاب القوات البيزنطية من المنطقة. وأمر الخليفة عمر بن الخطّاب ببناء مسجد سمي باسمه "العمري" خلال زيارته حوران متجهاً إلى الشام ومن ثم الدخول لمدينة القدس في العام 637 ميلادي.
حوّل النظام درعا وحضارتها إلى منطقة إنتاج وعبور للمخدرات، أي قصة سيحكيها أبناء المحافظة عن أرضهم بعد مئات السنين! من القمح الذي وصل إلى موائد روما والهندسة المائية والمعمارية والبطولات العسكرية والتجارة، إلى المخدرات!
أتذكر شخصيات بارزة مثل الإمام النووي من مدينة نوى، والشاعر أبو تمام من مدينة جاسم، وابن القيّم الجوزية من مدينة إزرع، وابن كثير من بصرى الشام، وغيرهم.
حوّل النظام درعا وحضارتها إلى منطقة إنتاج وعبور للمخدرات، أي قصة سيحكيها أبناء المحافظة عن أرضهم بعد مئات السنين! من القمح الذي وصل إلى موائد روما والهندسة المائية والمعمارية والبطولات العسكرية والتجارة، إلى المخدرات! التي وصلت إلى دول الخليج العربي وأوروبا وخرّبت عقول الشباب وفككت الأسر. الأرض والموارد ذاتها لم تتغير لكن تغيّر من يدير تلك الموارد، ثار أهل حوران ضد النظام في العام 2011 وأشرفوا على كتابة قصة لم تنته فصولها بعد.
عبثاً أحاول تذكر شيئاً جميلاً صنعه النظام في درعا، وأنا ابنها، لكن أجدني أتذكر معالم الرومان وحضارتهم، وأقرأ في كتابات النووي وابن كثير وأبو تمام. أتذكر أيضاً قصص جدي التي كان يحكيها لنا، جدي الذي رفض مغادرة منزله فقُتل على يد قوات النظام في العام 2012 عن عمر يناهز اثنين وتسعين عاماً ودُفن في ترابها.