بيروت مدينة اعتادت على إيقاع الأزمات والنزاعات، فصار بوسعها أن تتقوقع على نفسها لتنفتح من جديد بعد أن تتجاوز مرحلة الخطر، تماماً كما تفعل السلحفاة أو سرطان الماء.
ولكن منذ اغتيال زعيم حزب الله حسن نصر الله يوم الجمعة الماضي في الضاحية الجنوبية لبيروت، أصبح المرء يحس بأن بيروت أصبحت مكشوفة وعارية وكأن إعصاراً قد اجتاحها.
نزح الأهالي الذين أصابهم الذهول من الأحياء ذات الكثافة السكانية العالية المحيطة بموقع التفجير الذي أعلن الجيش الإسرائيلي بأن حزب الله أقام فيه مقراً مهماً للقيادة، وأخذ هؤلاء الناس يتوجهون نحو وسط مدينة بيروت.
أمضى الكبار والصغار ليلتهم في العراء، إذ ناموا في الحدائق التي أقيمت على طول الكورنيش الشهير ببيروت، فيما تابع الآخرون تنقلهم، بعد أن حملوا متعلقاتهم بأكياس تستخدم للقمامة أو بحقائب للسفر.
يحدثنا أبو عليم عن تجربته، وهو أب لخمسة أبناء، ونصير لحزب الله، وهذا ما جعله يدخل مرحلة الحداد على فقدان زعيمه، وقد افترش هذا الرجل درجات جامع محمد الأمين الذي يقع بالقرب من ساحة الشهداء وسط بيروت، فيقول: "أحس بتعب وحزن شديدين".
إذ قبل بضعة أيام، كان هذا الرجل يدير مخبزاً في الضاحية الجنوبية التي تعرف بأنها معقل حزب الله ببيروت، ويعلق على ذلك قائلاً: "لم يعد لدي عمل، ولا أملك أي شيء، كما لم يعد لدي بيت"، ويخبرنا بأن عودته إلى الضاحية محفوفة بمخاطر جمة حتى لو بقي العقار الذي يملكه هناك على حاله، وذلك نظراً لتواصل الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية وأجزاء أخرى من لبنان طوال يومي السبت والأحد.
"سنقوم من جديد"
لم يتمكن الصحفيون من زيارة أماكن سيطرة حزب الله من دون إذنه، كما تعرضت بعض الطواقم الصحفية لحذف المواد التي سجلتها أو صودرت معداتها.
وفي مؤتمر صحفي عقد يوم الأحد، أعلن رئيس الوزراء اللبناني بالتكليف، نجيب ميقاتي، بأن عدد النازحين اللبنانيين شارف على الوصول إلى مليون نسمة، وهو عدد كبير تعجز الدولة عن التعامل معه.
افترشت سماء أميري قيس الدرجات نفسها التي افترشها أبو عليم، وجلست لوحدها والصدمة بادية على وجهها، وذلك لأن هذه الخياطة التي تبلغ من العمر 51 عاماً قد أرسلت لتوها ابنها البالغ من العمر 11 عاماً وابنتها التي بلغ عمرها 12 عاماً في سيارة متجهة إلى سوريا حيث تقيم شقيقتها.
نزحت سماء هي وولديها يوم الجمعة وأمضوا ليلتهم الأولى في الشارع، لكنها تخبرنا بأنها لم تسافر مع ولديها لأنها لا تطيق الرحيل عن لبنان، وتعلق على ذلك بقولها: "نؤمن بأننا سننتصر على الرغم من كل شيء، وأؤمن بأن حسن نصر الله سيقوم من جديد، كما سنرفع رؤوس العرب جميعاً".
كان حزب الله قد أعلن يوم الأحد الماضي عن عثور فرق الطوارئ على جثة نصر الله تحت ركام الحفرة التي خلفتها القنابل الإسرائيلية الخارقة للتحصينات.
يذكر أن عدداً كبيراً من الدول الغربية، وعلى رأسها كندا والولايات المتحدة صنفت حزب الله بين التنظيمات الإرهابية.
وبالنسبة لأغلب المسلمين الشيعة، ليس فقط في لبنان، بل في عموم الشرق الأوسط، يعتبر نصر الله شخصية دينية تتمتع باحترام كبير وقائداً فذاً وذلك ليس فقط لأنه أسس أقوى جماعة مسلحة في البلد، بل أيضاً بسبب ما قدمه للمجتمع والسياسة.
وهنالك كثير من فئات الشعب اللبناني تؤيد هذا الرجل بوصفه رمزاً للمقاومة ضد إسرائيل.
لبنان يعلن الحداد ودعوات للتوحد
عقب الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة، أعلنت الحكومة اللبنانية الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام بدءاً من صباح يوم الإثنين، كما أعلنت عن رفع عدد عناصر الجيش اللبناني في العاصمة، وبدوره طالب الجيش الشعب اللبناني بالحفاظ على وحدته، وذلك لأنه في الوقت الذي يؤيد كثير من اللبنانيين حزب الله، ثمة كثيرون لا يؤيدونه، إذ أنحى بعض الناس باللائمة على حزب الله وعلى داعمته إيران، بسبب جر لبنان لحرب أخرى لا قبل له بها.
فعبر أثير محطة سي بي سي الإخبارية، وخلال مقابلة معه أجريت في منزله ببيروت، قال المؤرخ اللبناني مكرم رباح: "لقد أعلن نصر الله الحرب على إسرائيل بمفرده، وبالتأكيد فإن قذائف الجيش الإسرائيلي مسؤولة عن قتل اللبنانيين، ولكن في الوقت ذاته، تورط حسن نصر الله وإيران بشكل مباشر في قتل اللبنانيين".
إذ بعد أن شنت إسرائيل حربها على غزة عقب هجمات 7 تشرين الأول الماضي التي استهدفت المستوطنات الإسرائيلية والتي نفذها مقاتلون من حماس، بدأ حزب الله بإطلاق صواريخه على إسرائيل.
وهذا ما دفع رباح، وهو محاضر في الجامعة الأميركية ببيروت، للقول إن حزب الله بقي لسنين يستغل النظام السياسي الطائفي بلبنان على حساب الدولة اللبنانية، وأضاف: "إنني شخص يؤمن بأن علينا إعادة تقييم هذا النظام الطائفي برمته بما أنه سمح لحزب الله وغيره من الفصائل بالظهور".
الشلل السياسي يعم لبنان
تشكلت الخطوط العميقة للانقسامات الطائفية بلبنان في أربعينيات القرن الماضي بعد انتهاء الحكم الفرنسي، وترسخت تلك الانقسامات خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت من عام 1975 وحتى عام 1990.
ثمة 18 طائفة معترف بها في لبنان، وتوزع أهم ثلاثة مناصب في الدولة على ثلاث طوائف، إذ يجب أن يكون الرئيس مسيحياً من الطائفة المارونية، ورئيس الوزراء مسلماً من الطائفة السنية، ورئيس مجلس النواب مسلماً من الطائفة الشيعية.
بيد أن عدم الاتفاق على مرشحين لشغل هذه المناصب طوال السنوات الماضية أدى لظهور حالة شلل سياسي، ولقيام حكومة مؤقتة.
وفي أعقاب محاولات إسرائيل لإضعاف حزب الله، بما أنه بقي حتى الآن أمضى قوة في لبنان، وذلك بفضل سلاحه و دعم إيران التي أسسته وبقيت ترعاه، أعرب بعض اللبنانيين عن تخوفهم من تصاعد التوترات الطائفية في البلد، وهذا بدوره يغذي المخاوف من عودة محتملة للحرب الأهلية في لبنان.
إذ نقلت بعض الوكالات الإخبارية بأن أنصار حزب الله ضغطوا على أصحاب المتاجر حتى يغلقوا محالهم طوال أيام الحداد الثلاثة التي تلت مقتل نصر الله.
بيد أن رباح يرى في ذلك فرصة لتعزيز الوحدة الوطنية، خاصة بالنسبة لعدد كبير من الشيعة الذين اضطروا لترك بيوتهم في الجنوب وأجزاء أخرى في لبنان بسبب القتال، ويعلق رباح على ذلك بقوله: "أعتقد بأنه من واجب جميع اللبنانيين أن يُشعروا الشيعة بوجود شبكة أمان وطنية لديهم، ولكن في نهاية الأمر، ينبغي للمرء أن يدرك بأن هؤلاء الناس سيبقون مهجرين بصورة دائمة إلى أن نصل إلى مرحلة نعلن فيها بأن علينا استعادة لبنان وإعادة سيادته إليه عبر المطالبة بوقف إطلاق نار فوري، وليس عبر الاكتفاء بتحميل الإسرائيليين مسؤولية ما جرى فحسب، أي علينا أن نوضح وبشكل تام بأننا لا نريد أن نكون جزءاً من أي محور [تابع لإيران] أياً كان".
يذكر أن ميقاتي أعلن يوم الأحد عن عدم وجود أي خيار أمام لبنان سوى: "الخيار الدبلوماسي"، من دون أن يوضح رأي الدولة اللبنانية تجاه كل ما يجري.
المصدر: CBC