مع تفاقم أزمة الكهرباء في الشتاء وساعات القطع الطويلة التي يفرضها النظام السوري على المواطنين بحجة "التقنين" و"الأعطال"، وبعد انتهاء مدة "صفقة اللدات والبطاريات" التي لحقتها "صفقة الطاقة البديلة"، كان لا بد من ابتداع صفقات جديدة لملء جيوب المتنفذين في النظام وأمراء حربه، ولا سيما في ظروف اقتصاده المتهالك.
وكانت القرارات المتتالية لحكومة النظام برفع سعر كيلو الواط الساعي بنظام الأمبيرات بين الحين والآخر، من جملة مساعي النظام لتمهيد العمل بالأمبيرات وتعويد السوريين على النظام الكهربائي الجديد وأسعاره، فضلاً عن تشريع نقل الكهرباء توليداً وتوزيعاً من القطاع العام إلى القطاع الخاص في شكل أقرب للـ "خصخصة".
"إعمار الأسد" والعجز عن تأمين كهرباء الريف
بدأت فكرة الأمبيرات بالانتشار في مناطق ريف دمشق المُدمّرة بعد سيطرة النظام عليها وبعد إجراء عمليات "التسوية" أو "المصالحة" بترحيل فصائل المعارضة إلى الشمال السوري. ونتيجةً للبنى التحتية المدمرة وعمليات التعفيش و"التنحيس" بسرقة تمديدات الكهرباء النحاسية من قبل عناصر ميليشيا الدفاع الوطني وجيش النظام، فقد اضطر العديد من الأهالي إلى العودة إلى منازلهم بين عامي 2018 و2019، وترميمها على حسابهم الخاص لكن من دون وجود كهرباء.
وقد اتبع النظام سياسة إفقار الشعب وإبقائه في الظلام خلال سنوات الحرب وحتى الوقت الحالي، الأمر الذي دفع بالأهالي إلى المبادرات الفردية بتركيب مولدات ضخمة في مناطق مثل: يلدا، بيت سحم، ببيلا، عين ترما، سقبا... وغيرها من بلدات المنطقة الجنوبية والشرقية في دمشق وغوطتها وهو ما عُرف بينهم بـ "الأمبيرات".
وقد أتى ذلك من جملة محاولات السوريين العالقين في مناطق النظام للبقاء أحياءً من دون التعويل على حكومة الأسد بإصلاح شبكات الكهرباء العامة.
وفي الوقت الذي وصل فيه انقطاع الكهرباء داخل دمشق إلى 20 ساعة أو حتى لأيام كاملة، كان المشتركون بنظام الأمبيرات في المناطق المذكورة آنفاً يتمتعون بكهرباء لساعات جيدة خلال النهار مقابل دفعهم الاشتراكات الأسبوعية أو بحسب مقدار الصرف الذي يحدده العداد لكل مشترك، فلا شيء مجاني، إذ وصل سعر الكيلوواط في مدينة سقبا إلى 400 ليرة سورية بحسب تصريحات أدلى بها خلال شهر أيلول من عام 2020 رئيس مجلس مدينة سقبا "لتلفزيون الخبر" المقرب من النظام بقوله: "إن سعر الكيلوواط 400 ليرة سورية، وهو مرتفع بالنسبة للوضع الاقتصادي الذي نعيشه... مو كل الناس عندها قدرة تشترك".
الأمبيرات في دمشق: بين المنع والتشريع
بدأ نظام الأمبيرات بالدخول إلى دمشق في مطلع العام 2023 وعلى الرغم من تنصّل وزارة الكهرباء من الموافقة على منح تراخيص للأمبيرات بالنسبة للمنازل، لكن لم تطل المدة حتى تراجعت عن موقفها وبدأت بمنح التراخيص "من تحت الطاولة" لأصحاب المولدات "المدعومين".
وفي تصريحات سابقة لعضو مجلس محافظة دمشق، سمير دكاك، حول الأمبيرات في دمشق، أوضح أن الموافقات منحت فقط لأصحاب الأعمال التجارية والشركات والمطاعم.
وقال لجريدة "الوطن" المقربة من النظام آنذاك: "بدأ العمل بنظام الأمبيرات في عدد من أسواق العاصمة دمشق مثل الشعلان والحمراء والصالحية بعد أن حصلت على التراخيص اللازمة".
وعلى الرغم من الحجج التي وضعتها وزارة الكهرباء من جهة، ومجلس محافظة دمشق من جهة ثانية حول عدم اقتصادية العمل بالأمبيرات وكون المولدات الخاصة بها تسبب الضجيج والإزعاج وتأخذ مساحات في الأرصفة والشوارع العامة، فإن التمهيد لها بدأ بخطوات مترددة "ظاهرياً" لشرعنة وجودها عوضاً عن الكهرباء "الحكومية" التي عجز النظام عن تأمينها والتي فتحت باباً جديداً للاستثمار تستفيد منه حاشية الأسد.
في لقاء لموقع تلفزيون سوريا مع أحد أصحاب محال "الباتيسري والحلويات" في منطقة الشعلان وسط دمشق، أوضح أنه مشترك بنظام الأمبيرات منذ سنة ونصف تقريباً، وذلك بدفع اشتراك شهري لتشغيل برادات حفظ الحلويات والمواد الأولية مثل: القشطة والبيض والحليب.
يقول عامر (مستعار): "استطعنا حل مشكلة الكهرباء وفساد المواد من خلال الاشتراك بنظام الأمبيرات مع عدد من المحال في المنطقة، إذ تشاركت مع 3 محال أخرى في الاستفادة من هذه المولدة، وتزداد الكلفة الشهرية بازدياد عدد ساعات التقنين شتاءً، وقد تصل إلى 3 - 4 ملايين شهرياً، وهو رقم كبير لكن لا حل آخر في الوقت الحالي".
وانتشرت في الآونة الأخيرة المولدات الكهربائية الخاصة (صغيرة الحجم) والأمبيرات (المولدات الضخمة) في مناطق عديدة من دمشق مثل: الزاهرة، الميدان، المزة، دف الشوك، الصناعة... وغيرها، باشتراكات أسبوعية أو شهرية؛ إذ يستفيد من هذه المولدات أصحاب المطاعم والمحال التجارية وصالونات الحلاقة، وتُضاف تكاليف الاشتراكات التي يدفعها أصحابها إلى الكلفة النهائية للمستهلك أو المستفيد من الخدمة أو الزائر، وهو ما أدى إلى ارتفاع أسعار الحلويات والسناكات والوجبات في المطاعم، وأيضاً ارتفاع أسعار الخدمات التي تقدمها صالونات الحلاقة.
تقول سوسن (مستعار) في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، إنها استفادت من الاشتراك بنظام الأمبيرات لتشغيل الأدوات اللازمة لعمل الصالون على مدار اليوم ولا سيما عند الحاجة لتجهيز العرائس، لكن ذلك يُضاف إلى السعر المترتب على الزبائن: "اشتركت بنظام الأمبيرات بعد وصوله إلى منطقة الزاهرة الجديدة ما سمح لي بفتح الصالون واستمرار العمل حتى ساعات الليل المتأخرة من دون القلق من انقطاع الكهرباء المتزايد".
وفي حديثها عن الأسعار تقول: "يتململ بعض الزبائن من غلاء الأسعار وبمقارنتها مع أسعار الصالونات غير المشتركة بالأمبيرات، فبدلاً من أن تدفع إحداهن 20 ألف ليرة سورية مقابل السشوار، تضطر إلى دفع 30 ألف ليرة سورية في الصالونات التي تعمل بالأمبيرات أو على المولدات الخاصة... فرق 10 آلاف ليرة هو رقم كبير بالنسبة للكثير من الزبائن!".
وقد ارتفع سعر الكيلو واط الساعي من كهرباء الأمبيرات إلى 7500 ليرة سورية قابلة للزيادة بنسبة 5% بحسب أقوال عضو المكتب التنفيذي لقطاع المحروقات (عمران سلخو)، بعد أن كان سعر الواط 5500 ليرة سورية مطلع العام الحالي.
والجدير بالذكر أن أصحاب مولدات الأمبيرات لا يلتزمون منذ سنوات بالتسعيرة المفروضة؛ إذ تراوح سعر الكيلو الواط الواحد بين 9500 و13500 ليرة سورية.
في حديثه لموقع تلفزيون سوريا، يقول أحد المشتركين بنظام الأمبيرات (محمود): "عندما سألنا صاحب المولدة عن عدم التزامهم بتسعيرة الدولة، قال لنا: خلي الدولة تبيعك بأسعارها أو خلوها تعطينا مازوت حتى نلتزم بأسعارها".
صراعات المستفيدين
لم يعد غريباً على السوريين كون المستفيدين من صفقة الأمبيرات هم المقربون من النظام؛ إذ يأتي التنافس على المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات من جهة، وعلى استثمارات الأمبيرات نفسها من جهة ثانية.
ميليشيا حزب الله وتهريب المحروقات
سعت ميليشيا حزب الله منذ بدء الحرب السورية، لتحويل سوريا إلى طريق لتهريب الأسلحة والمخدرات والكبتاغون والمحروقات. إذ جرى نقل المازوت والبنزين من المحطات اللبنانية إلى السوق السورية لبيعها بسعر أعلى يفوق سعر المبيع في لبنان، وقد سهلت ميليشيا النظام عمل مافيات التهريب لكونها شريكاً ومستفيداً من خلق سوق سوداء للمحروقات في الداخل السوري بحسب تقرير سابق نشره المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وتعمل الجهات المرتبطة بحزب الله على إيصال المحروقات إلى مناطق سيطرة النظام عن طريق المنافذ غير الشرعية، لبيعها بسعر "الحر" كما يسميه السوريون، إذ وصل سعر المازوت "الحر" إلى 15 ألف ليرة سورية بينما يتراوح سعر البنزين "الحر" بين 16 – 18 ألف ليرة سورية.
قاطرجي على لائحة المستفيدين
حسام قاطرجي، المشمول بالعقوبات الأميركية، وأحد عرابي أزمات الوقود في سوريا؛ مسؤول هو الآخر بشكل مباشر عن عمليات تهريب المحروقات وشرائها من مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وتنظيم "الدولة" (داعش) سابقاً، عبر شركته الوسيطة BS التابعة لمجموعة قاطرجي الدولية.
وتأتي استفادة شركات قاطرجي مثل BS وشركة البوابة الذهبية من حيث تزويد أصحاب مولدات الأمبيرات بالوقود (المازوت) اللازم لتشغيلها والذي يباع بسعر الحر لا بالسعر المدعوم، وكان قد أوضح موقع تلفزيون سوريا في تقرير سابق عن التسهيلات التي منحها النظام لمجموعة قاطرجي في مجال المحروقات في دمشق وريف دمشق حلب، وكانت التسهيلات أخيراً بالدخول على خط الاستثمار بالأمبيرات.
إيران و"إحياء" قطاع الكهرباء
تأتي اللقاءات المكثفة بين المسؤولين الإيرانيين والسوريين، وتوقيع الاتفاقيات الاقتصادية، إلى جانب الزيارات المتكررة لسوريا، من جملة المساعي الإيرانية لفرض الهيمنة الاقتصادية على الأرض السورية وتحصيل مستحقاتها من النظام الذي بات مديوناً حتى أجل غير مسمى.
ومنح النظام التسهيلات اللازمة لذلك، ولا سيما بعد تعديل القانون 32 لعام 2010 بإصدار القانون 41 لعام 2022 الذي يسمح للقطاع الخاصة والمستثمرين بالدخول على خط توليد الطاقة الكهربائية بالطاقات التقليدية والمتجددة.
وقد عقدت حكومة النظام خلال السنوات الماضية عدة اتفاقيات مع الجانب الإيراني بقطاعيه العام والخاص، متعلقة بإنشاء أنواع محطات توليد الطاقة والطاقة المتجددة وكذلك إعادة بناء وتأهيل ورفع مستوى محطات توليد الكهرباء والتشغيل والصيانة وتأمين قطع الغيار للمحطات وتصليح المحولات الكهربائية وإنتاج المنتجات والأجهزة الكهربائية، كما ورد في مذكرة التفاهم لعام 2019.
إذ باشرت شركة بيمانير الإيرانية بوضع يدها على محطة محردة في محافظة حماة تحت مسمى "إعادة تأهيل" منذ عام 2019، كما وقعت شركة نوفن الإيرانية اتفاقية لإنشاء محطة توليد الطاقة الكهربائية بالاعتماد على الطاقة البديلة في منطقة حسياء، إلى جانب بناء محطة توليد "الرستين" في اللاذقية و5 مجموعات غازية في بانياس خلال العام الفائت.
وبسؤال وزير الكهرباء لدى النظام غسان الزامل في برنامج "هنا دمشق" عن مقترح دخول المستثمرين لتزويد خط التغذية الكهربائية بالوقود، أجاب: "نسعى حقيقةً إلى إدخال المستثمرين في قطاع تغذية المحطات وهناك دراسات من أجل مشاركة المستثمرين في تأمين حوامل الطاقة".
وبلقاء لموقع تلفزيون سوريا مع أحد المهندسين في محافظة دمشق (فضل عدم ذكر اسمه) أوضح أن تصريحات الزامل المواربة حول "المستثمر والشريك الوطني" ليست إلا تمهيداً لقوننة دخول المستثمرين الإيرانيين على خط التغذية الكهربائية "الحكومية"، الأمر الذي سيترتب عليه إعادة تسعير الكهرباء المدعومة وغير المدعومة، بحسب قوله: "سنترحّم على أيام الأمبيرات لكون الاشتراك فيها اختيارياً، فمن لا قدرة مادية لديه يستطيع الاكتفاء حالياً بكهرباء الدولة، لكن إذا رفعوا تسعيرة الكهرباء لجميع الناس... ماذا يفعل الفقير؟".
"جماعة ماهر" ورقة القص في اللعبة
لم تتوقف تجاوزات الفرقة الرابعة عند إدارة ملف الكبتاغون والبضائع المهربة والتحكم بالصناعات في عموم سوريا، بدءاً من صناعة النفايات ووصولاً إلى إنتاج المخدرات، بل أيضاً تسيطر "مافيا الرابعة" كما يسميها السوريون "همساً" فيما بينهم، في ملف المحروقات وتجارة الأمبيرات حديثاً.
بدأ الأمر بسرقة الكابلات الكهربائية النحاسية "التنحيس" في المناطق المدمرة، ثم عمليات تهريب الوقود بالتعاون مع حزب الله، التي ما لبثت العلاقة بينهما أن توترت بعد الخلافات على شحنات المخدرات وتهريب المحروقات.
أما في ملف الأمبيرات، فتظهر استفادة الفرقة الرابعة من خلال شركات مولدات الأمبير المرتبطة بها في دمشق وريفها مثل شركة "الزيبق" و"الأمان"، كما كشفت مصادر خاصة لموقع تلفزيون سوريا.
ومن جهة ثانية يستفيد عناصر الفرقة الرابعة من بيع المازوت بالسعر الحر؛ إذ يقومون بشرائها من دير الزور ونقلها إلى دمشق لبيعها بأسعار مضاعفة.
وتتباين تعليقات السوريين على ظاهرة الأمبيرات بين السخرية من عجز حكومة الأسد وإبداعها في اختراع الأزمات، وبين استهجان وصول الأمبيرات إلى دمشق "ليش صار في أمبيرات بالشام؟" بعد كل قرارات المنع ومصادرة المولدات وملاحقة أصحابها خلال السنوات الماضية.