يتزامن الحديث عن موسم هجرة جديد للسوريين يُوصف بـأنّه "الأكبر" منذ عام 2015؛ مع إجراءات وتدابير لا ينفكّ النظام السوريّ وإعلامه عن الحديث عنها والترويج لها بغية تأمين "عودة كريمة وآمنة للاجئين السوريين"، إلّا أنّ أحاديث الهجرة تطغى وتعلو لدى السوريين على حديث العودة، فلا يكاد يجتمع سوريان اليوم في مجلس إلّا وكان الحديث عن الهجرة ثالثهما، بالرغم من المخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها الهجرة الجديدة والتي أفضت إليها إجراءات اتّخذتها بعض البلدان المضيفة للسوريين ونتج عنها ترحيل عدد من السوريين المقيمين في تلك البلدان إلى الأراضي السورية.
يكلّل النظام السوريّ وإعلامه موجة تسهيلاته المزعومة التي أعلنها مؤخراً؛ بافتتاح مركز للتسوية في ريف إدلب الجنوبيّ لاستقبال الراغبين بتسوية أوضاعهم من المطلوبين، وقد حضر الافتتاح شخصيات أمنية وعسكرية ومسؤولون حكوميون.
الطريف أنّه في الوقت الذي يبدو فيه النظام منهمكاً بتأمين "عودة طوعية وكريمة للاجئين السوريين" إلى أرضهم التي يجاهد في رسم صورة مشرقة لها؛ تبدو السماء السورية مكفهرّة ومنفصلة تماماً عمّا يسعى النظام إلى تحقيقه على الأرض، إذ تعربد فيها الطائرات الإسرائيليّة وطائرات كل من هب ودب، بينما يصمت النظام السوريّ عمّا يحدث في سمائه ويتعامى وينصرف إلى تكرار سيمفونيّته المشروخة "الاحتفاظ بحقّ الردّ، سنردّ في الزمان والمكان المناسبين...".
نعم! على الأرض السوريّة التي يجاهد النظام السوريّ في تصويرها بأنّها "أرض الميعاد" التي يحلم الجميع بالعودة إليها؛ تتهاوى الأبنية فوق رؤوس ساكنيها وتمتد الطوابير، وتنعدم مقومات الحياة الأساسية، بينما تغصّ المعتقلات والسجون بالسوريين، ومع ذلك يستمر الحديث بلا كللٍ من قبل النظام عن العودة الطوعية التي هي شبه معدومة والتي أشبعها السوريون بسخريتهم المعهودة على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وانصرفوا عنها إلى التفكير بهجرة جديدة عن البلدان التي باتت تتململ من وجودهم وتطالبهم بالعودة إلى بلادهم بحجّة أن الحرب انتهت وأصبحت العودة ممكنة ومتاحة.
يكثر الحديث اليوم من قِبل النظام المجرم والمتواطئين معه عن عودة طوعية وتسهيلات تضمن العودة الكريمة والآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، في الوقت الذي تستمر فيه الطائرات الروسية بقصف المدن والبلدات الخارجة عن سيطرة النظام، إضافة الى التفجيرات والاشتباكات المتفرّقة التي تدور على الأراضي السوريّة
يكثر الحديث اليوم من قِبل النظام المجرم والمتواطئين معه عن عودة طوعية وتسهيلات تضمن العودة الكريمة والآمنة للاجئين السوريين إلى بلادهم، في الوقت الذي تستمر فيه الطائرات الروسية بقصف المدن والبلدات الخارجة عن سيطرة النظام، إضافة الى التفجيرات والاشتباكات المتفرّقة التي تدور على الأراضي السوريّة، وتبدو كل الأطراف معنية بها باستثناء النظام السوري الذي يكتفي بالجلوس على مقاعد المتفرّجين، يراقب عن كثب أحداثا تبدو وكأنّها تجري على أرض أخرى لا تخصّه ولا يعنيه أمرها، ينتظر نتائج تلك الأحداث وما تسفر عنه المفاوضات التي تديرها دولٌ أخرى بالنيابة عنه، ثمّ يشرع بتنفيذ الأوامر التي تأتيه من تلك الدول التي تولّت الملفّ السوريّ بالكامل.
لذلك لا يبدو غريباً اليوم أن يشرع النظام السوريّ بناءً على الأوامر التي تُملى عليه؛ بتسهيل عودة أولئك الذين أعلن نصره المؤزّر عليهم، بعد عملية تنظيف وترتيب للبيت السوريّ أفضت إلى ما أطلق عليه رأس النظام "المجتمع السوري المتجانس" الذي كلّفه تدمير سوريا وتهجير أهلها معظمهم، واليوم في سبيل إعادة هؤلاء الذين تباهى يوماً بالتخلّص منهم، يشرع النظام السوريّ على ـ حدّ زعمه ـ بتقديم تسهيلات تضمن "العودة الكريمة والآمنة للاجئين السوريين" إلى حضن الوطن؛ الحضن الذي يحاول جاهداً تجميله وإظهاره في أبهى صورة ممكنة، لكن السوريين معظمهم يدركون أنّ محاولات النظام البائسة تلك ونتائجها أشبه ما تكون بمضمون المثل الشعبيّ: "إِيشْ تعمل الماشطة في الوِش المشوم؟".
الطريف أكثر؛ بل الموجع أن يكون أحد الممرّات المفضية إلى "أرض الميعاد" السوريّة تمرّ عبر مركز للتسوية والمصالحة أشاده النظام السوريّ في مدينة خان شيخون الواقعة في ريف إدلب الجنوبي والتي نفّذ فيها قبل سنوات هجوماً كيماوياً يُعتبر ثاني أكبر هجوم بالأسلحة الكيماوية في سوريا من حيث عدد الضحايا بعد مجزرة الغوطة الشرقية.
واليوم يختار النظام المجرم خان شيخون نفسها ليقيم صلحه المزعوم على أنقاضها وعلى أنقاض مجزرة لن ينساها السوريون، مهما جاهد العالم في نسيانها وطمسها وتجاوزها نحو مراحل يقترحون فيها حلولاً للأزمة السورية، وأحد تلك الحلول يتمثّل في إعادة السوريين اللاجئين إلى بلدهم من خلال ضمانات تؤخذ من نظام مجرم هو سبب الأزمة السورية من ألفها إلى يائها.
للسوريين رأي آخر يناقض ما يرسمه العالم لهم ويعمل على تحقيقه من خلال ما أطلق عليه "عودة طوعيّة وآمنة للاجئين" فإذا كان النظام يعلن للملأ والعالم من حوله عن استعداده للتعاون في سبيل تحقيق تلك العودة، وتنهمك وسائل إعلامه بين الحين والآخر بسرد تفاصيل التسهيلات التي يقوم بها النظام في سبيل ذلك، فإنّه في الضفّة المقابلة يطالب السوريين الراغبين بالعودة إلى بلدهم من بلدان اللجوء بمراجعة "فرع فلسطين"، فضلاً عن اعتقال معظم العائدين إلى مناطقه أو ابتزازهم في أفضل الأحوال، لذلك يبدو من الطبيعيّ ألّا يلقي السوريون بالاً إلى تلك الدعوات المزعومة لنظام خبروا كذبه بأنفسهم ودفعوا ثمن تصديقهم له باهظاً فيما مضى، وما يزالون حتّى اليوم يدفعون ثمن تعامي العالم عن جرائم النظام وتصديقهم لأكاذيبه المتمحورة حول فكرة "محاربة الإرهاب" والتي يسيل لها لعاب العالم المتحضّر.
الثمن الجديد الفادح الذي يدفعه السوريون اليوم؛ هو الاستغناء عن الحياة التي مهّدوا سبلها بشقّ الأنفس في المجتمعات البديلة التي بدأت تتبنى سياسة "العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين"، والتي بدأت تتحوّل إلى عودة قسرية في ظلّ موجات العنصرية والتضييق التي باتت تعصف بوجود السوريين
أمّا الثمن الجديد الفادح الذي يدفعه السوريون اليوم؛ فهو الاستغناء عن الحياة التي مهّدوا سبلها بشقّ الأنفس في المجتمعات البديلة التي بدأت تتبنى سياسة "العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين"، والتي بدأت تتحوّل إلى عودة قسرية في ظلّ موجات العنصرية والتضييق التي باتت تعصف بوجود السوريين في دول الجوار المضيفة، والتي لم تعد لديها مشكلة في التنسيق والتعاون مع نظام مجرم في سبيل الخلاص من اللاجئين السوريين الذين أصبحوا بمنزلة الشماعة التي تعلّق عليها بعض الحكومات فشلها والأزمات التي تضربها.
يبدو أن موسم هجرة السوريين سيتحوّل إلى مواسم، وأنّ فكرة الهجرة ستبقى قائمة لدى السوريين، ما دام كابوس النظام المجرم جاثماً على صدورهم، لذلك فإنّ أيّ حديث عن "عودة طوعية وآمنة للاجئين السوريين" إلى بلدهم لن يستقيم ولن يعدو كونه أكذوبة من نظام احترف الكذب والتضليل حتى غدا مدرسة قائمة بحدّ ذاته، وأثبت للسوريين يوماً بعد يوم استحالة العيش معه واستحالة الوصول إلى أيّ حلّ بوجوده، فأيّة عودةٍ هذه وأيّ صلحٍ هذا الذي سيتحقّق ما دام القاتل موجوداً يصرّ دوماً على الحضور إلى الأماكن التي ارتكب جرائمه الفظيعة فيها بطريقةٍ وقحةٍ يتعمّد استفزاز السوريين بها، بل لا يكلّف نفسه عناء اختيار مكان للصلح المزعوم يبعد ولو قليلاً عن تلك الأمكنة التي اقترف فيها جرائم يندى لها كلّ جبين في العالم باستثناء "جبينه العالي".