تشكّل النجاة من معتقلات النظام السوري؛ معجزة تشبه عودة من هو بحكم الميّت إلى الحياة مجدداً، استناداً إلى قاعدة الطغاة المتداولة "كل داخل مفقود وكل خارج مولود"، ما إن يطأ المعتقل عتبة الحريّة من جديد ويستفيق من كابوس الاعتقال؛ حتى يصطدم بكوابيس أخرى في بلدٍ ما يزال أهله يدفعون ضريبته أضعافاً مضاعفة، تتجلّى في قتلهم وتشريدهم واعتقالهم من قِبل نظام مجرمٍ لا يتوانى عن ارتكاب أبشع الجرائم والمحظورات في سبيل بقائه.
يشكّل الاعتقال الكابوس الأكبر الذي يقضّ مضجع السوريين، يظنّ المغيّبون في معتقلاتهم أنّ الحرية قد ترسّخت في غيابهم وشقّت طريقها إلى الوجود وآتت أكلها، وحين يخرج أحدهم من سجنه الضيّق الزاخر بصنوف التعذيب والتنكيل، محمّلاً بالآمال؛ يصطدم بحقيقة أن البلد قد تحوّل إلى معتقلٍ كبير، وأنّ الانتساب إلى هذا البلد أصبح لعنةً تطارد السوريين حيثما وُجدوا، ولكلّ سوريّ أينما ذهب حصّته المحفوظة من العذاب والمعاناة والتي لا تنتهي بإفلاته من قبضة الموت المتربّص به في بلده.
في أحد الأحاديث التي دارت بيني وبين صديقةٍ أُفرج عن زوجها من سجون النظام بعد سنواتٍ من اعتقاله ـ أحاديث كهذه تبدأ عادةً بمشاعر السعادة المتبادلة حيال عودة من هو بحكم الميّت إلى الحياة، أو بخلاصه من المعتقل الذي يعرف جميع السوريين أن الموت أرحم منه، وتنتهي بتأكيد ذلك، وما بينهما قد تعرّج إلى تفاصيل الاعتقال إذا لامست تجاوباً من الطرف الآخر ورغبة من قِبله بالحديث ـ تفاجأت بحديثٍ من نوعٍ آخر؛ يتجلّى في الصدمة التي عاشها زوجها بعد خروجه من معتقله جرّاء ما آلت إليه الثورة السوريّة؛ الثورة التي تحوّلت في نظره ونظر سوريين كثر إلى مأساة متعددة الجوانب، شهد بعض جوانبها في عائلته، وعوائل غيره من المعتقلين وسواهم:
"صدمة زوجي بالحالة اللّي وصلنا إلها بعد خروجه من معتقله كانت أكبر بكتير من اللي شافه بالمعتقل، للحدّ اللي خلّاه يشوف إنّه خرج من جحيم لجحيم من نوع آخر، أحياناً بيتمنى يكون كل شي عم يشوفه مجرد كابوس!".
مؤلمٌ جدّاً اكتشافك أنّ الحريّة التي من أجلها غُيّبت في السجون والمعتقلات مع آلاف غيرك، قد تركها أهلها لتبيت في العراء وتواجه مصيرها وحيدة
ربّما يراودنا الخوف من سؤال قد يطرحه علينا واحدٌ من أولئك الذين دفعوا جزءاً من حياتهم ثمناً لحريّتنا حين سيقوا إلى جحيم الاعتقال؛ "ماذا كنّا نفعل في غيابهم؟"، سيحاول بعضنا الدفاع عن نفسه كما يحدث دوماً: "لقد فعلنا الكثير، لقد بذلنا ما بوسعنا؛ كي تبقى الثورة مستمرّة!".
انصرفتُ فور انتهاء حديثنا إلى التفكير في سبب صدمة زوجها، لم أستغرب في الحقيقة موقفه كثيراً، مؤلمٌ جدّاً اكتشافك أنّ الحريّة التي من أجلها غُيّبت في السجون والمعتقلات مع آلاف غيرك، قد تركها أهلها لتبيت في العراء وتواجه مصيرها وحيدة، ثمّ استفاقوا بعد سنواتٍ من غفلتهم وتجاهلهم لها، ليجدوا أنّفسهم يواجهون المصير ذاته، وبدلاً من مواجهة الأمر وتلافي المصير البائس الذي قد يحيق بهم، استعانوا بمن ساهم في صنع بؤسهم وهم يظنّون أنّ نجاةً محتملة قد تأتي على أيديهم، بمرور الوقت سيكتشفون أنّ مهمّة تلك الأيدي الخبيثة الوحيدة هي تجريد الثورة السورية من معانيها ومقاصدها وحرفها عن مسارها، لتتحوّل إلى مأساةٍ متعدّدة الجوانب ما تنفكّ تمطر السوريين بكوابيس عديدة.
هل قلتُ مأساة؟ نعم هي كذلك! حين تمتد الثورة لما يزيد على عقد من الزمن ولا تحقّق أهدافها تصبح مأساة، بالنسبة لبعض السوريين لا يعنيهم التوصيف كثيراً، ثورة، مأساة، المهمّ أنّها مستمرة، فباستمرارها يضمن هؤلاء أن مصالحهم ومكاسبهم التي حصلوا عليها باسم الثورة مستمرّة أيضاً.
هذا الرجل الذي خرج من معتقله ولم يلبث في دمشق التي لم يعد يرى فيها ربّما سوى بقعة جغرافية تعجّ بالمعتقلات، وقصد الشمال الذي أصبح ملاذاً لمن طالبوا بالحريّة؛ الحريّة التي لم يتوقّع كثير من المعتقلين أن يلتقوا بها مجدداً، الحريّة التي أجبرت عوائلهم وأهل مدينتهم على استبدال بيوتهم بخيم في الشمال وهم يظنّون أنّهم سيعودون عمّا قريب إلى بيوتهم التي تمّ الاستيلاء عليها، أو أصبحت أثراً بعد عين في جملة الأنقاض التي أصبحت تغطّي نصف مساحة سوريا، لعله شاهد في جملة ما شاهده أقارب له قد تصدّرت صور لهم المواقع كجزءٍ من اشتغالنا المهمّ في توثيق جوانب مأساتنا؛ لعلّ صورة ما تسهم في إيقاظ الضمير الإنسانيّ والعالميّ الذي يبدو أنّه قد أغمض عينيه عمّا يجري في سوريا ومضى في سباتٍ عميق بعد أن فشل واقعنا في إقناعه، قد يهزّه انعكاس الألم في صورنا، وقد يكتفي بإلقاء نظرة؛ لا بأس! لم يبقَ لنا إلّا التعويل على احتمالاتٍ هزيلة لما قد تثيره آلامنا المرميّة على قارعة وسائل التواصل الاجتماعيّ التي وثّقنا من خلالها مراحل الثورة وكلّ ما يمتّ إليها بصلة، وتأتي قضيّة المعتقلين وما تعانيه عوائلهم في غيابهم في مقدّمة اهتماماتنا وانشغالاتنا.
يبذل المصوّر ما بوسعه ليقبض على ابتساماتهم تلك، لعلّه يحصل على لقطة ممهورة بالألم قد تحجز لصورته مكاناً في "ترند" يدوم لأيّام على مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو في موقعٍ مهمّ
نعم! لقد وثّقنا معاناتهم ومعاناة عوائلهم في غيابهم! حين ودّع المعتقلون بؤس الاعتقال ونفضوا عنهم كوابيس رافقتهم في ليل اعتقالهم الطويل؛ خرجوا ليواجهوا كوابيس من نوع آخر، خرجوا ليشاهدوا بأمّ أعينهم تفاصيل القهر والبؤس الذي نحياه، وربّما أدهشتهم أمانتنا ودقّتنا في حفظ المآسي وتوثيقها، وعجزنا في أماكن كثيرة عن إزالتها أو التخفيف منها على الأقلّ؛ العدسات التي وثّقت هتافاتهم من أجل الحريّة في الساحات، ومواجهتهم النظام المجرم بصدور عارية، اعتصاماتهم التي تضامنوا بها مع المدن والبلدات الثائرة هي ذاتها؛ لكنّ زاوية الرؤية تبدّلت في غيابهم الطويل وتحوّلت لالتقاط صور لنسائهم وأطفالهم، وهم يغوصون في وحول مخيّم ما، وبينما تغوص أقدامهم عميقاً في الطين يستحثّون قسمات وجوههم على التشبّث بابتسامة باهتة لا تلبث أن تضمحلّ وتغيب مجدداً في ثنايا وجومٍ بائس قد اعتادهم واعتادوه، يبذل المصوّر ما بوسعه ليقبض على ابتساماتهم تلك، لعلّه يحصل على لقطة ممهورة بالألم قد تحجز لصورته مكاناً في "ترند" يدوم لأيّام على مواقع التواصل الاجتماعيّ، أو في موقعٍ مهمّ، هكذا نضمن أن ثورتنا ما تزال مستمرة!
نعم! من الطبيعيّ أن يتمنّى ذلك الرجل حين خرج إلى الحياة مجدداً، ورأى الحال التي آلت إليها عائلته وأهل مدينته والبلد بأكملها؛ أن يكون ما يراه مجرّد كابوس، فلا يمكن بحالٍ من الأحوال أن تتقبّل بسهولة حقيقة ضياع جزء من عمرك في عتمة السجون والزنازين المرعبة، ثمّ تخرج منها لتسمع الأعذار والحجج ممّن فرّطوا بعذاباتك وعذابات الآلاف من السوريين ومضوا في حياتهم وكأن شيئاً لم يكن.
ربّما لم يقل ذلك، وآثر الصمت، لتتولّى زوجته قول ما لم يقله باختصار، واسترسلتُ أنا في تفسير صدمته التي هي صدمتنا أيضاً، ونشترك معه في جزء كبير منها.
لعلّ حال كثيرين منّا اليوم لا تختلف عن حال ذاك المعتقل، لعلّنا جميعاً مثله نرجو أن يكون كلّ ما نراه حولنا مجرّد كوابيس تعثّر بها عبورنا المضني إلى الحريّة؛ كوابيس قد تعتري من يضلّ وجهته وسط الظلام، وعمّا قريب سيهتدي لوجهته وينفض الكوابيس من ثنايا حلمه بالحريّة، كوابيس تواجهها الأحلام الكبيرة في البدايات، فللحريّة كوابيسها أيضاً!