لطالما كانت القضيّة الفلسطينية حاضرة بقوّة في خطاب النظام السوريّ، وكانت تصفية الاستعمار ومقاومة الإمبريالية الغربية في عرفه لا تنفصل عن مسألة الدفاع عن القضية الفلسطينية، وهكذا فتح حفّار القبور الأول "الأسد الأب"؛ قبوراً لـ "عصابة الإخوان المسلمين العميلة" في ثمانينيات القرن الماضي، بوصفها عميلةً للإمبريالية الغربية وربيبتها المدللة إسرائيل، لجأ الأب إلى تلك الاستراتيجية لتنويم شعبه من خلال خلق حالة اللا حرب واللا سلم مع إسرائيل والتي انعكست آثارهما على الداخل؛ إذ تمّ إغفال الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في سبيل الهدف المنشود المتمثّل بتحرير آخر حبة تراب من أرض الوطن! وقد حذا الابن حذو أبيه في بدايات حكمه؛ وانتهز الصراعات المسلحة التي تدور خارج حدوده لتعبئة الشباب وصرف انتباههم عن المشكلات الداخلية كما حدث في العراق.
لم تعد تُصَدِّقَ الرواية الرسمية للحكومات في حروبها وقضاياها المفتعلة في سبيل صرف انتباه شعوبها عن الأوضاع الداخلية المزرية
بين حكم الأب والابن الذي اعتمد التطوير والتحديث شعاراً لحكمه تطوّرت عمليّة حفر قبور السوريين، لذا غدا من الطبيعيّ أن تتغيّر الوسائل والمعاول، لكنّ النتيجة واحدة؛ الاستمرار بعمليّة حفر القبور لكلّ سوريّ تسوّل له نفسه أن يمدّ رأسه خارج "المقبرة الأسديّة".
استراتيجيّة التنويم التي اعتمدها الأب وآتت أُكلها في زمنه وفي بداية حكم الابن، منيت بالفشل فيما بعد، بسبب التغييرات الجوهرية التي طرأت على وعي شعوب المنطقة التي لم تعد تُصَدِّقَ الرواية الرسمية للحكومات في حروبها وقضاياها المفتعلة في سبيل صرف انتباه شعوبها عن الأوضاع الداخلية المزرية، وقد تسرّب ذلك الوعي إلى السوريين بدورهم؛ لتنزاح القضية الفلسطينية عن طاولة الصراع الوجودي للعرب مع إسرائيل بوصفها "أمّ الصراعات". لم يعد مقبولاً لدى السوريين بعد ذلك الانزياح للقضيّة الفلسطينية؛ أن تُنفض كلّ القضايا الداخلية الملحّة جانباً كما يُنفض الغبار عن الطاولة، ليأتي ردّ نظام الابن منسوخاً من كاتلوك الطاغية أبيه الخبير الذي أوشك أن يجعل من مدينة بأكملها مقبرة لأهلها بوصفها حاضنة للمتمرّدين على حكمه؛ جرائم وفظائع وتدمير للبنى التحتية ومجازر في حق شعبه الذي طالبه بتنفيذ الوعود الإصلاحيّة التي أتى محمّلاً بها إلى الحكم.
لقد أشرع حفّار القبور الأول في الماضي معول العمالة والخيانة وحفر قبوراً لتلك "العصابة العميلة لإسرائيل" وهكذا استطاع إعادة التماسك إلى تربة مزرعته التي تشكّل القبور والسجون جزءاً كبيراً منها، وحمايتها من الانجراف بعيداً، لذلك كان من الطبيعيّ أن يجنح كثير من السوريين مع اندلاع ثورات الربيع العربي إلى فكرة التربية العصيّة على الانجراف مع مجرى السيل (ثورات الربيع العربي)، فأي ربيع هذا يتجرأ على دخول بلادٍ يقبع الآباء في سجونها منذ زمن الأب المؤدب لشعبه بقسوة، وحين حدثت المعجزة وتسرّب الربيع إلى تربتنا القاحلة عمد الابن إلى خزانة أبيه القديمة واستخرج فؤوسه ومعاوله القديمة وأعاد شحذها، وهكذا استطاع الابن الوفيّ لتاريخ أبيه أن يحفر مجدداً قبوراً لا نهائية للسوريين ماتزال مفتوحة وفاغرة أفواهها بانتظار المزيد من "السوريين العملاء والخونة"، المعول ذاته؛ معول العمالة والخيانة ونظرية المؤامرة التي تطوّرت ونضجت على يد الابن لتصبح مؤامرة كونيّة، وحرباً على الإرهاب، تلك الحرب المشروعة التي يسيل لها لعاب الغرب المتحضّر أبي الحريّات وأمّها ومسقط رأسها.
تكمن المفارقة أن نظام البعث الحاكم الذي كان ديدنه الاستقلال جعل من نفسه رهينة ضمانات إقليمية مثل روسيا وإيران، ومطية لدول الاستكبار والاستعلاء من خلال حجج واهية لم تعد تقنع أشد المؤيدين في الداخل، حتى مجرد التفكير بتحرير الجولان بات كابوساً يؤرّق أبناءه فيما لو حدث وتحرّر وعاد لحضن الوطن ليسحق بمعاول الاستبداد التي باتت تملك في زمن الابن وجهاً ميليشياوياً طائفياً.
لم يكن الأسد الأب بحاجة لمن يسعفه كما هو الحال مع الابن، فشمّاعة القضية الفلسطينية كانت حاضرة بقوّة على زمنه، أمّا الوريث الابن فلم تعد الشمّاعة القديمة تملك ذلك الزخم الذي يمكنه أن يعوّل عليه في صرف انتباه مواطنيه عن المشكلات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لذا لجأ إلى خلق أدواتٍ جديدة يمكنه الاعتماد عليها ليشرعن حربه المفتوحة على السوريين، وهكذا أسعفه مكره الموروث عن أبيه بأكذوبة مناسبة يمكنه التعويل عليها وهي "حماية الأقلّيات" ومواجهة "المؤامرة الكونية "التي تستهدف الأمن والأمان والتعايش السلميّ وشعاراتِ المقاومة والممانعة التي باتت محطّ سخرية وتندّر السوريين، فالنظام المقاوم والممانع في حربه الشعواء على "الإرهاب"، نسي حروبه القديمة الكبيرة وترك العدو يسرح ويمرح على أرضه وفي سمائه مؤثراً الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين.
كذلك لم يفوّت النظام فرصة اللعب على وتر الاختلاف الذي كان يتشدّق برعايته، فعمد إلى تأجيج وتوظيف وتسييس التوترات بين الطوائف، ليصل إلى مرحلة "أسلمة الثورة"، وبذلك استطاع إقناع العالم والمجتمع الدوليّ أنّ حربه التي يخوضها في سوريا هي حرب على الإرهاب، وأنّ السلام في المنطقة لا يمكن أن يستقيم من دونه.
لقد استطاع الابن الوفيّ لتاريخ أبيه؛ أن يحيي سنّة أبيه حفّار القبور الأوّل، وأن يخترع معوله وأدواته الحديثة التي تتماشى مع عصره
إنّ حالة التعايش السلميّ التي يتشدّق النظام برعايتها وحمايتها وحده؛ تمسّك السوريون بها منذ اللحظة الأولى، تجلّى ذلك في الشعارات التي أطلقها المتظاهرون، وفي مرحلةٍ لاحقة حين بدأ بعض السوريين بالتذمّر والسؤال عن السبب الذي يجعل المعارك تتركّز في قرى وأحياء ومدن دون الأخرى، كان الجواب لدى كثيرين يتجلّى في رفض الفكرة لإدراكهم أنّ النظام يتعمّد جرّهم إلى ذلك الأمر تحديداً، وقد تحقّق له ذلك من خلال لجوئه إلى أفكار ووسائل تنمّ عن المكر والدهاء، لتبدأ أسطوانته المشروخة المتمثّلة بأنّه "حامي الأقليّات" التي استطاع إيهامها بأنّه الحامي الوحيد لها من الخطر المتربّص بها والذي يهدّد وجودها، وهكذا ظلت المدن والقرى والأحياء التي تقطنها الأقليّات بمنأى عمّا يحدث، وبدأت الفئة الغالبة من السوريين تتحوّل إلى خانة العدو، بفضل ماكينة إعلاميّة خبيثة تولّت الأمر، وبدأت التلميحات تتحوّل إلى لوم ثمّ إلى اتّهامات صريحة، لتتحوّل مطالب السوريين بالحريّة وقضيتهم العادلة التي ضحّوا في سبيلها بأرواحهم إلى قضية تخصّ طرفاً بعينه، ثمّ يصبح هذا الطرف بنظر الأطراف الأخرى خائناً وعميلاً ومتآمراً على بلده؛ بلد الأمن والأمان الذي يشكّل نموذجاً فريداً من نوعه في التعايش السلميّ بين مكوّناته وأطيافه.
لقد استطاع الابن الوفيّ لتاريخ أبيه؛ أن يحيي سنّة أبيه حفّار القبور الأوّل، وأن يخترع معوله وأدواته الحديثة التي تتماشى مع عصره، وهكذا يغدو المطالب بالحريّة خائناً وعميلاً مصيره الموت وأن يُساق إلى المقبرة، ومن يتجاهل الحريّة ويتعامى عنها مؤثراً العبوديّة عليها يبقى حيّاً، تلك المعادلة التي آمن بها أولياء الأسد ومناصروه، لكنّ كثيرين منّا يعلمون أنّ الحريّة هي الحياة الحقيقية، والعبودية هي الموت، وأنّ الطريق إلى الحريّة طويلٌ مرصوف بقبورٍ كثيرة، لا يمكن لأحدٍ أن يتقن رصفها على الطريقة الأسديّة التي امتهنت حفر قبور السوريين من زمن الأب إلى زمن الابن الذي تفوّق على أبيه.