ماضي سوريا المحجوب وثقافة الانفتاح

2023.07.27 | 06:27 دمشق

آخر تحديث: 27.07.2023 | 06:27 دمشق

ماضي سوريا المحجوب وثقافة الانفتاح
+A
حجم الخط
-A

على الضد من مقولة صراع الحضارات التي ازدهرت أيام التسعينيات، وسرديات المستشرقين التي تصف بلاد الشام، وباقي الدول العربية، بأنها تحمل ثقافة العنف والانغلاق والخشية من الآخر، هناك سردية أخرى محجوبة تنبش في تاريخ المنطقة لتبين لنا أن منطقة بلاد الشام، على نحو خاص، كانت مثالا لتفاعل الحضارات وتسامح الشعوب ومقصدا للاجئي العالم. وهو ما يسمى في علم الأخلاق المعاصر بـ"مجتمع الثقة".

وتبين تلك الدراسات أن مدنًا مثل حلب ودمشق والقدس وبيروت وغيرها كانت، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مدناً كوزمولوجية؛ أي مدناً ذات فضاء متعدد الثقافات ومنفتح على الشعوب الأخرى. الأمر الذي جعل من تلك المدن هدفاً للاجئي تلك الأيام من أرمن وأكراد وشركس ويونان وقوقاز وغيرهم.

أن هؤلاء اللاجئين متيقنون بأنه لولا وجود ثقافة التسامح في منطقة بلاد الشام لما تمكنوا من العثور على مكان آمن، ولكانت حياتهم أكثر تعرضاً للأخطار والإبادة

وتشير الباحثة المختصة بالشأن السوري داون تشاتي في كتابها الصادر عن جامعة أكسفورد: "سوريا، تشكل دولة اللجوء وتفككها" إلى أن سوريا الكبرى كانت منطقة مثالية يقصدها اللاجئون والهاربون من الحروب، حيث وجدوا فيها ملاذاً آمناً يحفظ حياتهم ووجودهم ويساعدهم على البقاء من دون أن يضطروا إلى التخلي عن هوياتهم الدينية والعرقية. وأن ما ساعدهم على ذلك هو مزاج أهل بلاد الشام الميال إلى الكرم والضيافة والتعاطف مع من يحتاج إلى مساعدة أو تقطعت به السبل.

وتخلص تشاتي، بعد ما قضت عدة سنوات وهي تلتقي مع لاجئين عاشوا في سوريا في النصف الأول من القرن العشرين إلى أن هؤلاء اللاجئين متيقنون أنه لولا وجود ثقافة التسامح في منطقة بلاد الشام لما تمكنوا من العثور على مكان آمن، ولكانت حياتهم أكثر تعرضاً للأخطار والإبادة. كما أنها تلاحظ أن وجود عدد من المدن التي تعيش فيها أقليات دينية وعرقية محيطة بدمشق وبيروت وفي شمال سوريا ومناطق أخرى إنما يدل على تجذر ثقافة التسامح في المنطقة.

أما آصف بيات، عالم الاجتماع المعروف فيبين، في كتابه القيِّم "الحياة سياسة: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط"، أن سكان مدن مثل حلب والقاهرة وبغداد، في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كانوا يميلون إلى ما يسميه بـ"النزعة الكونية"؛ أي تمتعهم بعقلية عملية منفتحة تميل إلى التعاون مع الغرباء وإقامة علاقات مشتركة معهم تقوم على احترام الخصوصيات وتبادل المنافع وحسن الجوار، وحبّ التعرف إلى المختلفين في الأديان والثقافات، والتقليل من نزعة التغني بالتفوق العرقي أو عدم المبالغة بثقافة الأصل.

 الجديد في نظرية بيات حول النزعة الكونية تأكيدها أن آثار الاختلاط بين المختلفين ثقافيًا في المدن المذكورة، والشجارات بين الجيران، والتشكك من المختلف في الدين والإثنية، وبقاء الهويات الدينية والإثنية المحلية محسوسة بشكل واضح في المجال العام، لم يمنع من توليد ديناميات تميل إلى التفاهم، ومستوى معقول من الثقة الناتجة عن الاحتكاك والتعامل اليومي، واحترام الجيرة والغريب، ما لم تطرأ تدخلات وظروف خارجية تدفع الجماعات للشك ببعضها بعضاً. وهذا يعني بالنسبة لآصف بيات أن ثقافة الانغلاق والتشكيك بالآخرين وعدم الثقة بالمختلف دينيًا أو مذهبيًا أو إثنيًا هي ثقافة مستجدة على المنطقة ولا بد من البحث في أسبابها.

وعموماً فإن فكرة أن الشعوب تميل إلى الثقة والتعاون مع الآخرين ولديها الفضول الإيجابي تجاه المختلف ثقافياً فكرة أكدها أيضاً كليفورد غريتز في كتابه "تأويل الثقافات"، الذي يجول فيه في عدد من بلدان آسيا والعالم العربي. خلاصة كتاب تأويل الثقافات تقول: إن الشعوب المتجاورة ذات الإثنيات والأديان المختلفة، بمن فيهم العرب والمسلمون، من أندونيسيا إلى المغرب، تميل إلى التفاهم والتعاون، وحسن الجيرة، وإيجاد مستوى معقول من الثقة بينها، وأن غالبية الخلافات والصراعات الدينية والعرقية تكون بسبب تدخل السياسيين ومصالحهم.

الشعوب التي تعيش في ظل نظام ديمقراطي يحترم الحريات والحقوق تثق بالآخر وتتعاطف معه وتسعى لمساعدة المحتاج قدر الإمكان. بعكس النظام الأسدي الذي سعى جاهداً لتعليم السوريين عدم الثقة ببعضهم بعضاً، وإشعارهم بأنهم يعيشون في غابة

وتبين الفلسفة السياسية المعاصرة أن الثقة بالآخر المختلف ثقافياً ترتفع عندما يتمتع الناس بالحرية والعكس صحيح أيضاً. فالشعوب التي تعيش في ظل نظام ديمقراطي يحترم الحريات والحقوق تثق بالآخر وتتعاطف معه وتسعى لمساعدة المحتاج قدر الإمكان. بعكس النظام الأسدي الذي سعى جاهداً لتعليم السوريين عدم الثقة ببعضهم بعضاً، وإشعارهم بأنهم يعيشون في غابة، وعليهم أن لا يأمنوا جانب بعضهم بعضاً. طبعاً انتشار ثقافة عدم الثقة في مجتمعٍ ما هي ركيزة أساسية لأي نظام متسلط.

وما نريد أن نصل إليه من وراء مثل تلك الاستشهادات والدراسات الجامعية المهمة أن الحديث عن السوريين، وسكان بلاد الشام عموماً، بأنهم ذوو ثقافة مغلقة، ويميلون إلى التعصب الديني والحذر العرقي وعدم الثقة بالمختلف ثقافياً، هو حديث يستسهل الانزلاق في توصيفهم عبر التركيز على بعض ما تقوله نخبة غريبة عنهم. وأن هناك نخباً سورية وعربية تميل إلى توصيف الناس في الشرق الأوسط على هذا المنوال، والتي تفضّل أن يُحمَّل السوري مسؤولية ما يجري له، بغية الحفاظ على مصالحها، أو تبرئة نفسها من أي مسؤولية، ولو أخلاقية.