من المعروف لدى دارسي العلوم السياسية أن علماء السياسة يتناولون مفهوم السياسة بالبحث والدراسة من خلال معنيين، وكلاهما له علاقة مباشرة بخبرات المرء اليومية. الاستخدام الأول: هو التقليدي الضيق جدا، وهو ما تقوم به الحكومات. وفي معنى أوسع – عندما يمارس الأشخاص السلطة على الآخرين – فهي جزء من كل أنواع العلاقات الاجتماعية، سواء أكانت علاقة قرابة أم علاقة مهنية أم دينية أم ثقافية.
يعد المعنى الثاني أكثر حداثة وأكثر عمقا في دراسة الظاهرة السياسية، ورغم اعتقاد البعض أن البحث حول كيفية ممارسة البشر للسلطة قد يكون منفصلا تماما عن النشاط الفعلي في السعي إلى ممارسة هذه السلطة، إلا أنه عمليا؛ تمثل الأفكار والمهارات السياسية المسبقة بعض أهم الأسلحة في ترسانة الرجل السياسي.
هذه الأقلية (الصفوة) تمتاز عن الأغلبية بخصائص فكرية ومادية وأخلاقية تكتسبها نتيجة موقعها القيادي، وهذه الامتيازات ليست نتيجة لعوامل فطرية، وإنما ترتبط باعتبارات اجتماعية وثقافية
يحيلنا هذا المعنى للسياسة (عندما يمارس الأشخاص السلطة على الآخرين) إلى أحد أهم مباحث علم الاجتماع السياسي، وهو "نظرية النخبة"، أو "نظرية الصفوة". ورغم عدم اتفاق منظري النخبة على معنى واحد لها، بيد أن تعريفها بأنها "فئة قليلة داخل المجتمع لها مكانتها الاجتماعية العالية، وتؤثر على أو تحكم بعض أو كل شرائح المجتمع" قد يفي بغرض هذا المقال.
بحسب أغلبية منظري النخبة؛ هذه الأقلية (الصفوة) تمتاز عن الأغلبية بخصائص فكرية ومادية وأخلاقية تكتسبها نتيجة موقعها القيادي، وهذه الامتيازات ليست نتيجة لعوامل فطرية، وإنما ترتبط باعتبارات اجتماعية وثقافية، وهم يستمدون قوتهم من سيطرتهم الفعلية على مقاليد الأمور ومراكز اتخاذ القرار. بمعنى آخر، هم يمارسون السياسة عمليا بشكل يومي ويكتسبون خبراتها من خلال مواقعهم الاجتماعية وطبيعة العلاقات المنبثقة عن هذه المواقع.
يعتقد عالم الاجتماع السياسي الإيطالي "فيلفريدو باريتو" أن الجماهير غير قادرة على ممارسة الحكم لأنها غير مؤهلة لذلك، بل يذهب إلى القول "إن النخبة الحاكمة تستطيع تحقيق أهدافها بفعالية حينما لا تطلع الجماهير على الآليات التي تحكمها". وحقيقة الأمر أن هذا ما يحصل بالفعل، سواء نصح "باريتو" بذلك أم لم ينصح، وهذا ما يجعل مهارات وتقنيات وأساليب ممارسة القيادة التي هي في النهاية ممارسة سياسية حكرا على هذه الأقلية؛ يقابلها جهل مطبق من قبل الأغلبية.
من أجل تبسيط الفكرة وإيضاحها يمكننا سرد القصة التالية: رجل غريب يسكن في حي أغلبية سكانه من عائلة واحدة. لسبب ما، وتحت ضغط نوبة انفعالية قام هذا الرجل بكيل وابل من الشتائم لسكان الحي كأنما فقد عقله، وبتوجيه من كبير العائلة، بدأ سكان الحي بمضايقة هذا الرجل لمدة يومين، وفي اليوم الثالث زاره كبير العائلة ومسح على رأسه ثم خرج للناس ليعلن أن من يعتدي على هذا الرجل كأنما يعتدي عليه. في المنزل يسأل ابن كبير العائلة والده: لماذا لم تترك الناس يستمرون في مضايقته كي يغادر الحي فقد تجاوز حدوده؟! يجيب الأب: يا بني، نستطيع أن ندفعه للرحيل لكننا لا نستطيع التحكم ببيع بيته، فربما باعه لرجل شرير؛ عندها سوف نحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لترويضه وربما نفشل. هكذا ظهرنا بمظهر من يعفو عند المقدرة. وفي اليوم التالي تعلم الولد درسا آخر عندما سمع والده يقدم للبقية تبريرات من نوع آخر؛ تبريرات غير حقيقية مبسطة ومضللة.
تتوالى الأحداث وتتراكم الخبرات لتعطي لأعضاء طبقة أو فئة الصفوة تلك المزايا التي ذكرت سابقا، وهكذا تصبح السياسة بمثابة مهنة لا تتقنها سوى الصفوة. ويبدو أن هذه الحقيقة يصعب تجاوزها حتى في أرقى الديمقراطيات حيث القوانين والمبادئ التي تضمن العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، فقد أشارت دراسة أجريت في بريطانيا عام 1993 إلى أنه بالرغم من المواهب والقدرات الذاتية التي يتمتع بها أصحاب القرار السياسي في النظام البريطاني فإن 68% من هؤلاء يرجعون بأصولهم إلى الطبقات الراقية في المجتمع البريطاني.
ليس المقصود بتفوق النخبة الاجتماعية تماهيا مع النظريات العنصرية التي تربط تفوق بعض الأعراق أو بعض الفئات بعوامل فطرية سيكولوجية، إنما هو تفوق جاء كنتيجة طبيعية لموقعها الاجتماعي وتعليمها الخاص
رغم أن نسبة 68% تشكل أغلبية واضحة، إلا أن النسبة المتبقية 32% هي نسبة لا بأس بها، ولكن التوقع بأن النسبة الأكبر من هؤلاء ترجع في أصولها إلى الطبقة العليا من الطبقة المتوسطة لن يكون مجانبا للصواب، وهكذا؛ بمعنى ما: نحن لم نغادر إطار الصفوة بشكل حقيقي. رغم ذلك؛ يمكن القول: إن تفوق الصفوة واستحواذها على مزايا تمكنها من فهم وممارسة السياسة بشكل أكبر هو قانون ثابت، لكنه ليس قانونا صارما إذ يقبل بعض الاستثناءات.
مرة أخرى، ليس المقصود بتفوق النخبة الاجتماعية تماهيا مع النظريات العنصرية التي تربط تفوق بعض الأعراق أو بعض الفئات بعوامل فطرية سيكولوجية، إنما هو تفوق جاء كنتيجة طبيعية لموقعها الاجتماعي وتعليمها الخاص الذي تتلقاه بحكم موقعها ومسؤولياتها وممارساتها اليومية، وبحكم ما تمتلكه من مصادر القوة المادية أو المعنوية أو الثقافية، ومن تقدير الآخرين.
كل ذلك يفسر لنا كيف يستطيع رجل متوسط التعليم أو ربما شبه أمي لكن من طبقة اجتماعية مرموقة أن ينشئ أو يحكم إمبراطورية مترامية الأطراف، وكيف يفشل رجل حاصل على أعلى الشهادات في إدارة قسم في جامعة أحيانا. كما يفسر لماذا لا تجيد الجماهير فهم السياسة بشكل جيد، ولماذا تختزل تفسير أكثر القضايا تعقيد بعبارات مختزلة جدا، أو ربما بكلمة واحدة مثل: خيانة، بيع، تخاذل، صمود، شجاعة، تآمر، وهكذا... فالسياسة مهنة تحتكرها الصفوة.