لا يعلم جمهور الثورة أن حاضنة النظام تنظر إلى القبيسيات بعين حمراء وقلب أسود. وسواء أكانت هذه الحاضنة طائفية أو أمنية أو عسكرية أو علمانية إقصائية، أو مزيجاً من هذا وذا وذاك؛ فإنها لا تمل من التذكير بأن الثورة خرجت من الجوامع، وأن اجتثاثها كلياً رهن بتجفيف المنابع وإلا فإن جذورها ستبقى مرشحة للاشتعال مجدداً، الآن أو بعد جيل.
وضمن منظور يرى في التجمعات الإسلامية درجات متعاضدة وقابلة للتبادل عبر أوان مستطرقة؛ يعتبر هؤلاء أن النفَس المحافظ الذي تبثه القبيسيات يمكن تصريفه إلى عملة إخوانية قابلة للتحويل، بدورها، إلى الجهادية. ولا يرون في التصريحات التبجيلية التي تسفحها القبيسية سلمى عياش في مدح بشار الأسد، واصطحابها عدداً من بنات الدعوة المبتهجات إلى اجتماعات معه متى شاء؛ أكثر من محاولة خبيثة للخداع وقع الرئيس الطيب في حبائلها، أو اضطر إلى قبولها بحكم موقع الدولة التي تلتزم، بكل أسفهم، بأن تكون لكل مواطنيها.
وفي المقابل كشف رحيل مؤسسة الجماعة، منيرة القبيسي، قبل أسبوع عن أثر الجرح الحاد الذي تركه هذا السلوك في نفوس أكثر أبناء الثورة الذين رأوا في تقارب قبيسيات مع النظام خياراً أصيلاً لدى حركتهن في الانحياز إلى القاتل الذي كان يدك ريف دمشق ومناطق عديدة من سوريا بأعتى آلات حربه بينما كان يلتقي بهن، منظّراً وصدر مجلس دون هيبة.
والحق أن الجماعة وجدت نفسها في موقف غير مسبوق بعد الثورة. فعندما نشأت في الستينات كانت أضأل وأقل تنظيماً من أن تثير اشتباه أجهزة أمن البعث غير مفرطة الحساسية آنذاك. كما أتاح انفراج السنوات الأولى من حكم حافظ الأسد للجماعة فرصة النمو، وصولاً إلى صدام السلطة مع الإخوان المسلمين في مطلع الثمانينات، وهو الذي وضع القبيسيات تحت المجهر بسبب القرابات العائلية التي بدت بين عضوات في هذا التيار وبين أفراد في جناح الإخوان المسلمين بدمشق. وفي حين لاحقت أجهزة الأمن الثاني فإنها وضعت الأول تحت عين لصيقة من الرقابة، لخصوصيته النسائية الحساسة، ولأنه لم يشارك فعلاً في التمرد ولم يدعمه قولاً، التزاماً منه بالقواعد التي بني عليها من عدم التدخل في السياسة. أما العامل الآخر الذي نتج عن أحداث الثمانينات فهو ظهور التيار الاستئصالي في الحزب والدولة، ومثّله رفعت الأسد وعدد من كبار ضباط المخابرات والجيش الذين خاضوا صراعاً مريراً ووجودياً مع الإسلاميين، وتدثُروا بالعلمانية المعلنة للحكم وتقدميته لفتح باب الاقتلاع والتطهير والمسح وزراعة البطاطا.
لم تكن سنوات الثمانينيات سهلة على القبيسيات اللواتي لجأن إلى وسائل عديدة للاستمرار في دعوتهن، ومنها اختراق بيوت بعض المسؤولين السنّة عبر استقطاب الزوجات أو الأخوات
لم تكن سنوات الثمانينات سهلة على القبيسيات اللواتي لجأن إلى وسائل عديدة للاستمرار في دعوتهن، ومنها اختراق بيوت بعض المسؤولين السنّة عبر استقطاب الزوجات أو الأخوات أو تدريس الأبناء. كما تقبلت الجماعة «اختراقاً» معلناً من الطرف الآخر، حين تأقلمت مع وجود من ينسّق مع الأمن من داخلها، تأكيداً منها على أنها دعوة إصلاحية سلمية وسطية ليس لديها ما تخفيه عن «المراقبين».
في التسعينات كانت الدعوة تتوسع وتُهيكل وتُمكّن، مستغلة الانفتاح النسبي لحكم حافظ الأسد في الأمن والسياسة والاقتصاد. وكان لهذا العامل الأخير أهمية أكبر لدى حركة غير مغرمة بالقطاع العام فراحت تبني مؤسساتها التعليمية على هامشه، دون أن تتوانى عن دفع ما يلزم هنا وهناك للحصول على التراخيص والحماية الوقائية. وقد كانت الجماعة تتبلور كقوة مالية معتبرة نتيجة تسديدها، منذ البداية، على بنات العائلات البارزة والميسورة في العاصمة، وبناء صندوقها الخاص.
حملت السنوات الأولى من حكم بشار الأسد، التي بيّنت تردده، عوامل متناقضة للقبيسيات. فمن جهةٍ سمحت لهن شعارات الإصلاح المرفوعة بالعمل بحرية عالية، ومن جهةٍ أخرى أتيحت الحرية للمتوجسين منهن للتعبير عن ذلك في وسائل الإعلام بطرق مختلفة. ولم يكن ذلك بعيداً عن يقظة متناثرة للتيار الاستئصالي في أجهزة الأمن التي عبّر أحد كبار ضباطها عن توجه لإخراجهن من «أوكارهن». وهو التعبير الذي اعتمده إعلام الثمانينات لوصف قواعد الإخوان المسلحة، لكنه عنى الآن انتقال القبيسيات من الاجتماع في البيوت إلى التدريس في المساجد تحت أعين الأمن ووزارة الأوقاف.
لم تكن الجماعة، القائمة على السرّانية النسائية تكويناً ولو دون أسباب موجبة لذلك، ترغب في هذا الانتقال، لكنها اضطرت إليه تحت الضغط. كانت قد بنت، خلال العقود الماضية، علاقات طيبة مع مشايخ دمشق البارزين. وقد تولى تجسير عملية الانتقال هذه اثنان منهم يتمتعان، بالإضافة إلى ثقة القبيسيات، بصلة متينة مع النظام؛ هما الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والشيخ محمد حبش.
حين قامت الثورة لم تكن الحركة مستعدة لحدث بهذا الحجم. فمنذ نشأتها سلكت كدعوة عمقيّة تراهن على زمن لامتناه من العمل على تحفيظ القرآن ونشر العلوم الشرعية وقراءة الأوراد وتغيير المجتمع بالقوة الناعمة، وتكره النزق والتحولات السريعة. وقد تعزز هذا مع تضخمها وثقل حركتها وتقدّم «آنساتها» في العمر، وعلى رأسهن «الحجة» التي كانت في نحو الثمانين. لكن الحركة دفعت في هذه المرحلة ثمن تمددها إلى ريف العاصمة والمحافظات الأخرى، عندما لم تستطع ضبط قواعد من المريدات والآنسات اللواتي انخرطن في الحراك الثائر في محيطهن. وعبر هؤلاء كانت أخبار الاعتقالات والقتل والقصف تُنقل، بالسند المتصل، إلى القيادة البطريركية العجوز وتضعها في زاوية أخلاقية حرجة.
استغرق الأمر ثلاث سنوات تقريباً من الضغوط، من النظام من جهة ومن هذا الجناح الثائر من جهة أخرى، على الحركة لتعلن موقفاً. وأثناء ذلك انشقت الكثيرات عنها أو تشظين بفعل النزوح، حتى سمحت لجناح موالٍ فيها أن يتصدر المشهد ويبدو وكأنه الممثل الوحيد.
لم يسبق للقبيسيات أن أعلنّ هذه الدرجة من الموالاة، لكن بيان الحرب التي قررها الأسد لم يترك مجالاً للمراوغة، فقد أوضح أن عليك أن تكون معه أو ضده دون لبس. ومن وجهة نظر الحركات الإصلاحية فإن الخيار البديهي هنا هو مصانعة الوالي والانحناء للعاصفة.
في العمق ترى الدعوة أنها أرسخ من الماجريات، وأنها ولدت قبل حافظ الأسد وستظل بعد ابنه، وأنها وُجدت قبل الثورة وستبقى بعدها وبغض النظر عن نتائجها. ولذلك يكرهها خصومها الاستئصاليون بوصفها حركة باطنية معندة عملياً، ويحنق عليها ثوار لأنها ظهرت أنانية ومتعالية على آلامهم. وتجاه هذا وذاك لم تهتم الحركة بالتفسير فهي لا تحبذ المكاشفة الإعلامية، وليس لها صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد رحلت زعيمتها دون أن تترك صورة واحدة!