في عام 2020، صدر عن دار sonçağ التركيّة ديوان "لستَ فأساً ولستُ شجرة" بطبعته الأولى، وهو آخر ما كتبه الشاعر والأديب السوريّ المعاصر حسن إبراهيم الحسن، والديوان الوحيد من بين أعماله الأدبيّة الذي يحتوي على قصائد نثريّة صنّفها الحسن في ثلاثة أقسام : من سيرة شجرة ـ فهرس المعادن ـ سيرة ناقصة.
ديوانٌ أراد الشاعر من خلال قصائده أن يقول للطرف الضدّ في الوطن إنّني لستُ شجرة يسهل اجتثاثها، وأنت لست فأساً وليست مهمّتك اجتثاثي.
ثنائيّة الشجرة والفأس فكرة حاول الشاعر تثبيتها حول ماهيّة الصراع الدائر في سوريا على أنّه صراع بين نظام قمعيّ مستبدّ يحاول اجتثاث معارضيه وبين شعب ثائر، انقسم الشعب على إثر ذلك بين مؤيّد ومعارض؛ فذراع الفأس (النظام الحاكم) هو غصن الشجرة (الشعب الثائر).
القسم الأوّل من ديوانه الشعري والذي جاء تحت عنوان "من سيرة الشجرة" يقوم الحسن على أنسنة الشجرة التي تبكي في جنائز جميع القتلى بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسيّة، وهذا ما أكّده في قوله:
"الشجرة/ تعلم أنّها ستصير ورقاً لكراريس المدارس، للنعوات/ لرسائل الحبّ/ للصحف التي تحمل كلّ يوم صورة الجنرال/ وابتسامته المعدنيّة/ ستصير ورقاً ليكتب عليها قاتل: الشجرة أخمص بندقيّة/ ويكتب شاعر : الشجرة مظلّة عاشقين/ الشجرة سرير طفل/ الشجرة تنجب الأضداد وتبكي في جنائزهم جميعاً".
هذا وقد أكّد الشاعر في أكثر من قصيدة على رفضه فكرة الاجتثاث؛ فبرأيه لا يستطيع سوريّ اجتثاث سوريّ آخر في الضفّة المقابلة، فيقول في إحدى قصائده:
"حين لا تعجبك الضفّة الأولى/ تستطيع أن تختار الضفّة الأخرى/ فأنت لستَ شجرة/ عدوّك ليس فأساً ولست شجرة أيّها الجنديّ".
كما يحمّل الشاعر تجّار الحروب ومن يدّعون صداقة الشعوب مسؤوليّة استمرار الصراع ووقوع المزيد من الضحايا فيقول:
"شجرة... شجرة تنقص الغابة/ لا أفكّر بأصدقاء الطبيعة الذين يبكون الشجرة أمام الكاميرا وفي عتمة الأقبية يتاجرون بالخشب.
الشجرة/ مثلك تماماً أيّها السوريّ/ فكلاكما حطب لا بدّ منه كي تستمرّ المحرقة".
وهروباً من المآسي والآلام التي امتلأ بها الديوان يحاول الشاعر أن يرسم بسمة على وجوه قرّائه من خلال قصيدة لم تخرج عن السياق العامّ للكتاب بل هي في صلبه، يحاول إيهامك بأشياء تكتشف خلافها في نهاية القصيدة، يقول فيها:
"تماماً كما يفعل المراهقون/ من وراء نافذتي أرقب جارتي تتعرّى/ تخلع أشياءها قطعة... قطعة/ جارتي مراهقة في الأربعين مثلي/ ترتدي الأصفر أو برتقاليّاً فاقعاً لتسخر من خريف العمر/ الآن.../ مثل روحي تقف عارية تماماً جارتي شجرة البلّوط".
ويختم الشاعر القسم الأوّل من ديوانه الذي يدور حول فكرة أنسنة الشجرة بقصيدة يحمّل فيها الجميع بلا استثناء استمرار شلّال الدم في سوريا الجريحة، فيقول:
"وحدها الشجرة بريئة من دم السوريّ/ لو لم تكن أخمص بندقيّة/ وحدها البريئة لو لم تكن غصناً كي تحطّ حمامة/ وتمدّ غصناً كي يلوذ وراءه الصيّاد".
في القسم الثاني من الديوان والذي جاء تحت عنوان "فهرس المعادن"، صوّر الشاعر من خلال قصائده وحشيّة النظام الأسديّ المجرم في ارتكاب المجازر والتفنّن في أساليب القمع والتعذيب من خلال ترسيخ حكم العسكر البوليسيّ وإرهاب الشعب؛ فيقول في قصيدة بعنوان "مسدّس" :
قبل ثلاثين عاماً/ سألني أبناء جارنا الضابط/ ألدى أبيك مسدّس؟/ قلت: لا/ قالوا: إذاً ستكون اللصّ في اللعبة ونحن البوليس/
مرّت الثلاثون عاماً واندلعت الحرب... يا الله!/ ولم يزل أبناء جارنا الضابط يطاردونني بمسدّساتهم/ وأنا كذلك لم أزل أؤدّي دور الضحيّة.
وفي قصيدة أخرى يفضح الشاعر إحدى وسائل التعذيب التي انتهجها نظام القمع والاستبداد، بعنوان "ملاقط":
"مثل ضحكاتهم/ كانت الملاقط المعدنيّة تلمع في أيدي الجنود/ وهم يقتلعون الأسنان من فم الضحيّة".
يختلف الحسن عن كثير من الأدباء والشعراء السوريّين الذين كتبوا عن الألم السوريّ وجراحه، في أنّه لم يكتب قصائده معتمداً على خياله وشاعريّته الأخّاذة فقط بل على ما عايشه وعاناه على أرض الواقع في أحد أحياء مدينة حلب (مساكن هنانو)؛ فالشاعر عاش أيّام حصار حلب، كما عايش قصف أحياء المدينة بالبراميل والصواريخ، فكتب كثيراً من القصائد تحت القصف، كما أنّه تعرّض للاعتقال والتعذيب في سجون الطاغية، وذاق مرارة التهجير والنزوح، وقد أفرد القسم الأخير من ديوانه للحديث عمّا عاينه وعاشه من إجرام على المستوى الشخصيّ. ولأنّ رحلة الألم السوريّ لم تنتهِ بعد فقد عنون القسم الأخير من الديوان بـ "سيرة ناقصة"، حيث يتجرد في إحدى قصائد تلك "السيرة" من المثاليّة والحياديّة التي يتغنّى بها بعض الكُتّاب والشعراء، ليعبّر عن موقفه من النظام ومجازره التي عاينها عن قرب بكلّ شفافيّة ووضوح فيقول:
"متطرّف أنا/ لذا لا تصدّقني حين أكتب/ "أستطيع أن أعيش وأخي العدوّ في شقّة واحدة/ كنت أعمل محاسباً في المجزرة/ أضع في كيس واحد عشرة أصابع، قدماً، رأساً/ وبضعة كيلو غرامات من اللحم المفتّت/ ثمّ أكتب على الكيس: جثّة كاملة".
وعن تجربة الاعتقال التي تعرّض لها الشاعر ومعاناته فيها، وعن وضاعة ضبّاط المخابرات والتحقيق، وكيف استطاع صديق له أن يفكّ أسره بألف دولار قبضها أحد الضبّاط لقاء ذلك، كلّ ما سبق يرويه لنا في قصيدة بعنوان "من يشتريني؟"
"من يشتريني؟/ من يشتري كلباً أربعينيّاً مريضاً؟/ كنت أهذي في دمشق/ وكان يمكن أن أكون جثّة منسيّة في ثلّاجة المشفى/ وكان يمكن أن أكون رقماً في قبر جماعيّ/ أو ربّما جثّة مجهولة الهويّة/ أو خبراً عاجلاً".
ولأنّ المكتبة والكتب من أثمن الأشياء التي يقتنيها شاعر وأديب مرهف الإحساس والمشاعر كان لا بدّ للحسن أن يخصّ مكتبته التي تركها في هنانو المحاصرة بقصيدة تقطر منها دموع الحزن والألم:
"لأنّ اللصوص لا يقرؤون والقرّاء لا يسرقون/ تركت مكتبتي في هنانو/ قلت: / كتاب واحد/ قد يسخّن كوب حليب لطفل على حافّة الموت برداً/ بضعة كتب/ قد تخبز بضعة أرغفة لعائلة نازحة/ الذين زاروا أطلال بيتي هناك أخبروني/ أنّ نازحة لم تجد حطباً في زمهرير الشتاء/ فاستعارت المكتبة".
حسن إبراهيم الحسن
ولد في جديدة الجرش بريف دمشق 1976. تخرّج من جامعة دمشق، المعهد المتوسّط التجاريّ. ويقيم حاليّاً في ألمانيا.
صدر له:
- (المبشّرون بالحزن) ديوان شعر ـ دائرة الثقافة والإعلام في حكومة الشارقة 2008
- (غامض مثل الحياة وواضح كالموت) ديوان شعر ـ دار الصدى ـ دبي 2015
- (خريف الأوسمة) ديوان شعر ـ منشورات زين ـ الخرطوم 2015
- (كالصدأ العنيد على الصواري) ديوان شعر ـ دار ميم للنشر ـ الجزائر 2017
- (ها أنت وحدي) ديوان شعر ـ منشورات شباب النهرين ـ دمشق 2017
- (نكتب التاريخ) باللغة الألمانيّة ـ منظمّة EXiL ـ كتاب مشترك لعدد من الكُتّاب ـ أوسنابروك 2020
- (نصوص من المنفى) باللغة الألمانيّة ـ اتحاد كتّاب هامبورغ ـ كتاب مشترك لعدد من المهاجرين ـ هامبورغ 2018
وحاز الشاعر على العديد من الجوائز العربيّة والعالميّة.