تتفاقم الأزمة اللبنانية يوما بعد يوم بعنوانها الاقتصادي-الاجتماعي وبمسبباتها السياسية الداخلية والخارجية فقد عادت طوابير المواطنين من بوابة الأفران والسجال شبه اليومي بين التجار ووزارة الاقتصاد إضافة إلى ارتفاع الأسعار المستمر على مختلف الصعد وصولا إلى "دولرة" المعيشة اللبنانية دون الرواتب فلا يتعدى راتب موظف الدولة الثمانين دولارا في وقت تعاني فيه الإدارات العامة جميعها من الشلل بسبب الإضراب المفتوح الذي ينفذه موظفو القطاع العام بانتظار إيجاد حل لمشكلة الرواتب. لا تقف هذه المشكلة وحيدة بل ترافقها العديد من المشكلات الأخرى من أبرزها مشكلات الكهرباء، الماء، المواصلات، الطبابة والتعليم والتي تحتاج لتدفقات العملة الصعبة التي يؤمّنها مؤقتا السائح في فصل الصيف ويترقب الجميع مصير كلّ القطاعات عند انتهاء الموسم السياحي ودخول فصل الشتاء حيث من المتوقع أن تنفجر الأزمة في وجه المواطن بشكل غير مسبوق في ظل تضخم عارم لم تستطع الأجور مواكبته.
في هذا الصدد تقدم الاقترحات لرفع أجور الموظفين بطرق مختلفة ولكن تقف في وجهها معضلة الإيرادات التي تيقن مسؤولو لبنان أو اعتادوا أن تكون عبر المساعدات الخارجية والتي لن تأتي إلا بعد الإصلاحات والحلول السياسية وهو مكمن الخلل اللبناني.
ينتخب رئيس الجمهورية اللبناني عن طريق مجلس النواب الذي خرج متشظيا في الانتخابات الأخيرة في كتل صغيرة تجتمع وتفترق "على القطعة" وهو ما يفسح المجال للتداخلات الخارجية لتكون أكثر فاعلية
كلف الرئيس ميقاتي تشكيل الحكومة إلا أنه من الواضح بأن التشكيل بعيد المنال لرفضه تلبية رغبات رئيس الجمهورية الذي يفاوض وعينه على الرئاسة القادمة. لذلك من الواضح ألّا حكومة قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولا حلول في عهد الرئيس عون والواقع اللبناني كما هي عادته تحكمه التسويات الخارجية قبل الداخلية وهو ما سينتظره لبنان لاختيار رئيس جديد للجمهورية يكون انطلاق الانفراجات بعد انتخابه، ليس لقدرات الرئيس الجديد بل لقدرات التسويات المعتادة.
فتح ملف الرئاسة اليوم على مصراعيه ولا يعني ذلك إتمامه أو وضوح رؤيته إلا أنه تحوّل ليكون الموضوع الأهمّ على طاولة البحث ليبدأ استعراض الأسماء واحتمالية وصولها من عدمه.
ينتخب رئيس الجمهورية اللبناني عن طريق مجلس النواب الذي خرج متشظيا في الانتخابات الأخيرة في كتل صغيرة تجتمع وتفترق "على القطعة" وهو ما يفسح المجال للتداخلات الخارجية لتكون أكثر فاعلية. فالاسم الأكثر تداولا حتى اللحظة هو النائب السابق ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية حفيد رئيس الجمهورية الراحل سليمان فرنجية.
يعدّ فرنجية حليف حزب الله والأسد الوفيّ لحلفه ومحوره والذي كان قاب قوسين أو أدنى في الانتخابات الماضية من الوصول لكرسي الرئاسة حيث نزل في النهاية تحت حكم حزب الله الذي تمسك بعون. هذه المرة ينتظر فرنجية رد الجميل من حزب الله، اللاعب الأبرز في السياسة اللبنانية، والذي أثبت أنه لا يزال صاحب النفوذ الأوسع في مجلس النواب نظرا لتفتت الخصوم.
ينظر حزب الله للرئاسة كما إلى جميع الملفات من بوابتها الإقليمية فيدرك بأن الرئيس المقبل سيكون إما انعكاسا للصراع أو الاتفاق الإقليمي. ولكن وبحسب مصدر مقرب من الحزب لا يبدو الحزب مستعدا للمواجهة داخليا والإتيان برئيس دون اتفاق أو قبول من الطرف الآخر لكي لا يتحمل عبء الأزمة الاقتصادية لكونها لن تحلّ إلا بالرضى والدعم الخليجي لذلك وفي حال قرر حزب الله المواجهة في معركة الرئاسة فإن الدعم الخارجي لن يأتي وهو ما يعني تفاقم الأزمة وانفجارها في وجه الحاكم المباشر حينئذ أي حزب الله. لذا لم يصرّح الحزب علنا بدعمه لفرنجية كي يبقي هامش المناورة مفتوحا وأوعز إلى فرنجية بأن الكرة في ملعبه وبأن كرسي الجمهورية مرتبط برضى كافة الأطراف عنه وهو ما حدا بفرنجية إلى محاولة التقرب من الدول الخليجية وتقديم نفسه على أنه وسطي.
على المقلب الآخر، لا يزال ينظر لفرنجية على أنه حليف الرئيس الأسد وهو ما يجعله اسما غير مقبول من الجانب السعودي الذي يرفض حتى اللحظة إعادة تأهيل الأسد. لذلك يمكن القول بأنه كلما اقترب الأسد من العرب اقترب فرنجية من كرسي الرئاسة التي تحول بينه وبينها عوائق جمّة حتى الساعة.
أما الاسم المطروح على الطرف المقابل فهو اسم قائد الجيش جوزيف عون المقبول من الغرب ومحورها في لبنان والذي يشهد له الجميع بأنه حافظ على تماسك الجيش في هذه الظروف الصعبة وقلص فيه الفساد. حزب الله بدوره وإن صوّب سابقا على الجيش وقائدها إلا أنه اليوم غير النبرة في هذا الاتجاه ويهادنه ولكن لا يعني ذلك قبوله به.
خارج هذا السياق تحاول القوات اللبنانية جمع أكثر من نصّ مجلس النواب في إطار تنسيقي سيادي تحضيرا للانتخابات الرئاسية فقد ذكر رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع بأنه من الممكن جمع 67 نائبا في هذا الإطار. لكن الحقيقة هي أن اختلافات النواب المذكورين أكبر من أن يجمعوا في إطار معين أو حتى أن يتوافقوا على اسم معين للرئاسة فيما بعد.
الشعور السياسي العام فيما يخص رئاسة الجمهورية هو أن اسم الرئيس المقبل لم ينضج بعد وبأنه لن يكون إلا بالتوافق الذي يرضي الحاكم الفعلي وصاحب المال
أما عن المملكة العربية السعودية فهي حتى اللحظة لم تتدخل في اللعبة اللبنانية بشكل مباشر ولم يعرف بعد توجهاتها في لبنان والملف الرئاسي بانتظار اتضاح التوجه إقليميا لذلك يظهر جنبلاط في كل مقابلاته مؤخرا حذرا يوازن بين جميع القوى حتى اتضاح الصورة، إلا أن واقع لبنان الاقتصادي والاجتماعي والنيابي يجعل السعودية لاعبا لا يمكن تخطيه في عملية اختيار الرئيس.
في المحصلة، فالشعور السياسي العام فيما يخص رئاسة الجمهورية هو أن اسم الرئيس المقبل لم ينضج بعد وبأنه لن يكون إلا بالتوافق الذي يرضي الحاكم الفعلي وصاحب المال وأي خيار غير ذلك يعني تفجير الواقع اللبناني وهو من غير المرجح أن يحدث وتحت هذه المظلة طرحت العديد من الأسماء التي ربما تنطبق عليها هذه المعايير كالوزير السابق ناجي البستاني، والنواب فريد الخازن وفريد البستاني.
مهما اختلف الواقع اللبناني وتبدّل تبقى تركيبته الطائفية الحالية وفشل الإقليم في إنتاج تيارات وتحركات عابرة للطوائف وكثرة التيارات مقارنة بحجمه الصغير يبقى لبنان مرهونا للتسويات والمحاصصات التي يحضر معها دائما الفساد والانهيارات عاجلا أم آجلا. فالذي ينتظر اليوم انتخابات الرئيس على وقع التسوية الإقليمية ليشهد انفراجة مرحلية سيشهد بعد سنوات انتكاسة أخرى وينتظر بعدها المسكنات المعتادة لأن لبنان لم يستطع إنتاج حلول صناعة داخلية ومستدامة. وحتى ذلك الحين سيظل المشهد اللبناني يعيد إنتاج نفسه.