"لا تدقَ مسمارا في جدار الغربة
اِرمِ بمعطفك فوق الكرسي
لماذا تتموَّن لأربعة أيام
وأنت عائد غداً"
ابدأ بعبارة قالها بريخت، وربما نقولها في تغريبتنا السورية، حيث بات المنفى لغات وجغرافيات، وسؤالا يؤرّق ويتكرر، كيف يمكننا تخليص سوريا من ركام الوسخ التاريخي، في وطن بات أشبه بتراجيديا سوداء؟
استبداد في مواجهة المثقف والمتعلم والمتنور يعبث فيحيل الحياة خرابا، وهو ما جعلنا في الغياب والتغييب القسري، والرحيل من لغة إلى لغة، من هوية إلى أخرى، وربما أقسى المنافي الهجرة من اللغة.
في التغريبة السورية، ننظر حولنا نرى أن بعض الناس سحقهم المنفى، وحوّلهم إلى حالة يأس، البعض ابتلعهم، وآخرون اندمجوا بعوالم ولغات وبلدان جديدة، ولا يهمهم حتى أن يلتفتوا إلى الوراء، خراب يمتد من دولة إلى أخرى، وكأننا نتساقط دون أن ينتبه أحد لكل هذا السقوط.
هذا المشهد الكارثي ربما يمتد نحو أمة بكاملها، أمة تعيش حالة إعصار، في أفق شبه مسدود، ولأننا نرفض فكرة الفجيعة بأنها المصير الأخير والعبء الحتمي الذي لا مفر منه، فإننا نسأل عن دور المثقف، من هو المثقف، ولماذا يعتبره المفكرون الحل السحري للأزمات؟
نعرف أن الاستبداد بكل أشكاله السياسية الطائفية العسكرية، وعبر تاريخ طويل يشكل بيئة طاردة وقاتلة للمثقف الذي يقف في مواجهته، فيتعرض للقتل للاعتقال للملاحقة، والأكثر من هذا يتعرض للحصار الاقتصادي، أي يحرم من فرص العمل في معظم الأمكنة التي يلجأ إليها، وكأن ثمة خيطاً خفياً وواضحاً أيضا من الملاحقة، خيط يشكل جزءا حقيقيا من هولوكست قيامي، لهذا يكبر السؤال كيف يمكن محاربة اليأس كخطوة أولى في طريق الألف ميل؟
وطن كامل فوق حفرة جوفاء من العذاب، الخسارة واللامكان والحب والعزلة انفصال عن المكان الأول، الرحيل إلى جغرافيات وأرصفة ومصير جديد
أمام ثورة تشبه مشوار بيتهوفن في نشيد الفرح، الذي جرّب كل العازفين وكلّ الآلات، ولم يصل في نشيده إلى الصوت الذي يرضيه، فاستعان بالصوت البشري، غنى لشيلر في السمفونية التاسعة فحقق رغم الانتقادات إبداعا لافتا، أسوق هذا المثل لأنه يشبه وضع النخب السورية التي باتت في المنافي تعزف على كل الآلات، العبث، السخرية، الهزل، التغريب، وبكل الفنون تعزف، لتسفيه مفهوم الاستبداد، وفضح الممارسات، الخراب الحروب، ببعد هذياني أحيانا، بالصوت والصورة، بالموسيقا والغناء، بالشعر، بالحب بالفرح، بالمقال بالرواية بالفكر والفلسفة، ورغم هذا كأنهم يقفون في وادٍ آخر، تاركين الوطن منصة للهباء والحروب والقتلة.
وطن كامل فوق حفرة جوفاء من العذاب، الخسارة واللامكان والحب والعزلة انفصال عن المكان الأول، الرحيل إلى جغرافيات وأرصفة ومصير جديد، وكأننا ندخل اختبار الوجود والهجرة إلى أمكنة هذه اللغة، وهذا يعني الابتعاد عن مجتمعك، ويعني أكثر تفتيت هذا المجتمع، لا أسرة ولا حارة ولا مدينة ولا قرية وكأن الكون ينزاح من مكانه.
فهل المشكلة في المثقف ودوره الطليعي، أم بالحرب والصراع السياسي حيث يعلو صوت الصراعات والمصالح على حساب الأرض والإنسان؟
هل المشكلة في المثقف، الذي بات ينط ويحارب طواحين الهواء على السوشيال ميديا، يحرر البلاد، يهزم الاستبداد من وراء شاشة موبايل أو شاشة كمبيوتر، تاركا العالم يعبث بتاريخنا وأرضنا، وكأننا نعيش عصر المسخ الكافكاوي وربما أكثر؟
هل المثقفون تافهون وعاجزون عن تخطي العتبة لأنهم ألفوا المكوث داخل صوامعهم، أم أن الوضع السوري بات أشبه بكبكوبة صوف مليئة بالشوك، لهذا صار حديث كل النخب في الداخل وفي الخارج هل ثمة حل، هل ثمة خريطة طريق؟
فإذا كان المفكرون يرون أن "النخبة الوطنية الثورية المثقفة ليست طرفاً في صراعات زائفة، بل هي العقل الذي يجب أن يتعين في الواقع، أنها روح التاريخ المتجاوز لكل الوسخ التاريخي أياً كان شكله ونوعه"(1)، على نفس المشهد، فإننا نسمع لأصدقاء ومن الجميع أكراد، سريان، عرب، شركس، يشخصون الوضع بالكارثي، هنا نسأل وبعيدا عن تعريف المثقف، نسأل عن دوره في رفض أن الفاجعة هي المصير الأخير والعبث الحتمي الذي لا مفر منه، فمحاربة اليأس هي الخطوة الأولى في طريق الألف ميل، فإذا لم يستطع المثقف إنجاز أفعال تفوق البشر فإن الضياع هو المصير، النضال يعني أن نكتب، أن نعقد مؤتمرات افتراضية واقعية في كل مكان، كسر الاعتقاد بديمومة البربرية، وهنا وأمام هذا المشهد الذي هو أسوأ من أي تصور، إيران ترسم طريقها من العراق إلى دمشق، تركيا أيضا تخاف من الوجود الكردي ككيان وتدخل إلى سوريا، وأميركا، وروسيا، إلى جانب الجوار السوري مع إسرائيل، وبعد خذلان العالم لنا، نسأل عن أهمية وجود نخب وطنية ومن الجميع، نخب ترسم خريطة طريق، على مبدأ "لا تتكلوا على أحد غيركم".
طالما هناك وطنيون، وأصوات تتململ من الوضع الذي وصلت إليه سوريا، هل ثمة مستحيل أمام تكوين لجان حقيقية مقبولة سياسيا من الدول التي بيدها قرار الحل الفعلي، لا سيما أميركا وإسرائيل؟
في التسعينيات، إن لم تخني الذاكرة - تعرفت على عالم السيدة "دوميتيلا شانغارا" التي أعجب ببسالتها الكاتب إدواردو غاليانو، وذلك حين رآها تخطب في تجمع عمالي مشيرة إلى أن العدو الرئيس للشعب البوليفي ليس الإمبريالية ولا البيروقراطية إنما هو "الخوف الذي يقبع في أعماقنا".. تعرفت على عالمها عبر كتابها الشهير "دعوني أتكلم" وهو باختصار "شهادة امرأة من المناجم البوليفية"، امرأة وقفت بشجاعة ضد الطغيان والاستغلال وأوصلت صوتها إلى منابر الأمم المتحدة، رغم أنها ربة بيت وزوجة عامل في مناجم القصدير وأم لستة أطفال – أوصلت مآسي العمال الذين يزدادون فقرا وجوعا ومرضا وأنينا، وهذا الوضع يشبه حالنا نحن داخل المنجم، وتجار الحروب يعبثون بكل شيء.
القراءة في الواقع تقول إن المثقف معزول، نتيجة علاقته المرتبكة بالسلطة، كثير من المثقفين تأثر بالحس الطائفي، البلد مقسم، نحن لا نستطيع أن نجتمع، والكل مقسم، الأكراد، القوى الأخرى على الأرض التي ارتهنت لسياسات مختلفة، وكأن الوطن حقول ألغام.
البلد في نفق مسدود، وليس في نهايته شمعة، إذ ليس ثمة استعداد للالتزام بالاستحقاقات السياسية، ولا معالجة للفساد المستشري
ناهيك عن المثقف المسكون بنظرية المؤامرة، والتي دخلت من الفجوة بيننا وبين النظام.
قال لي أحد الأصدقاء الأكراد، حين نقول الأكراد يعني أننا نعتبرهم كتلة واحدة منسجمة، وهذا غير صحيح، وقيسي على هذا المنوال على الجميع، ظاهرة مخيفة، فالسنوات العشر الأخيرة غيرت فينا الكثير أخلاقيا واجتماعيا، مختصر المسألة أن البلد في نفق مسدود، وليس في نهايته شمعة، إذ ليس ثمة استعداد للالتزام بالاستحقاقات السياسية، ولا معالجة للفساد المستشري، وتفاقم البطالة بين الشباب؛ وتشرذم المعارضات، والأطراف كلها المحلية والإقليمية والدولية تلتزم بلغة السلاح.
وكي لا نقع في اليأس، مجرد هذا الطرح هو بداية لتجمع أصوات متعددة، تعمل على تسفيه الاستبداد، وفضح الممارسات، والدفاع عن مبادئ إنسانية تجمع هذا الوطن.
لا أحد ينكر وطنية البعض، ولكن في المحصلة أصواتهم خفتت.. وهم كغيرهم منقسمون، هل تستطيع بعض النخب الوطنية أن تجلس على طاولة واحدة؟
....................
1-مقالة المثقف للدكتور أحمد برقاوي