لم تعد المدينة تشبه نفسها
وعكس مجراه يسير النهر
تثرثر الرِّيح
إيقاعٌ فراغٌ ولا ذاكرة
ونحن نعيش ارتدادات الخراب، لا بد أن نتوقف قليلا لنروي حكايتنا، حكاية مدينة، حكاية وطن، ونقول كان ياما كان، ويكون أيضا، كان ثمة أناس أتوا من جبال نائية إلى المدينة بأنياب الحقد، وكانوا يكتبون تاريخ الخراب والحرائق، وهنا استحضر قاص دمشق زكريا تامر، الذي رأى الحرائق والخراب في قصصه (دمشق الحرائق)، كما رأى جورج أورويل في روايته "1984"، مستقبل الخراب، وفي قياس سريع نسأل أين كنا وأين أصبحنا، وإلى أين نتجه نحن وبلداننا والعالم على خريطة الجحيم، فهل الكتابة استقراء للمستقبل، وأي مستقبل هو هذا ونحن نشهد حرائق دمشق، ونرى المدن بناسها يدخلون المحرقة، ويتحوّل كلُّ شيء إلى ركام، وكان آخرها حريق سوق ساروجة، هذا الحي الدمشقي الذي مشيت به، وشممت رائحة غار حمام الورد، وآذان المساجد التي تمتد إلى أكثر من ثمانية قرون، ومدرسة معاوية.
نعم كان يوما حزينا على دمشق، فأن يصحو أهل الشام وسكانها على حريق حي ساروجة التاريخي، يعني هذا أولا وأخيرا أن دمشق باتت بلا حارس ولا بواب، وأن يوم 16 من تموز، سيسجل في الذاكرة والتاريخ، بأن دمشق محكومة بحاقدين ومستهترين، والإهمال في التعامل مع أي حريق سواء كانوا هم وراءه أو غيرهم ممن يرفعون الرايات السوداء.
ويبقى السؤال: ما معنى أن يحترق 3 من أهم معالم دمشق الأثرية والتاريخية؟
مهما تعددت الأسباب، نحن المحكومين بمن لا يؤمنون بتراث مادي، ولا بتراث معنوي، ولا بحضارة هذه المدينة، وهذا ليس غريبا على الضباع الذين سكنوا المدن وحوّلوها إلى خراب!
ماذا تريدون؟ هذا السؤال الذي يقف مثل منارة في حقل ألغام، كأنّما زكريا تامر كان يشعر بدمشق والمآلات التي ستعيشها، لقد أصيب قمر الشام بالخسوف، والنار تحرق الذاكرة
لا شك فإن مدينة دمشق القديمة هي أول موقع أُدرِجَ في سوريا في الدورة الثالثة للجنة التراث العالمي، التي عُقِدَت في عام 1979، أسواق ومدن سورية أدرجت في التراث المادي وغير المادي العالمي، وها هي تتطاير رمادا وسط حرائق وارتدادات الخراب الذي نشهده ويشهده العالم بصمت مريب.
استحضر ما قاله زكريا تامر في "دمشق الحرائق: كفوا عن الصياح، ما هذا الزعيق والنعيق هل نسيتم أن الوطن في خطر ماذا تريدون؟"
ماذا تريدون؟ هذا السؤال الذي يقف مثل منارة في حقل ألغام، كأنّما زكريا تامر كان يشعر بدمشق والمآلات التي ستعيشها، لقد أصيب قمر الشام بالخسوف، والنار تحرق الذاكرة، هذا القمر الذي رآه الروائي أنطونيو غالا في إحدى زياراته لدمشق القديمة، وظن نفسه في الأندلس، اليوم قمرنا يشحب ويتغير لونه، والدخان يغطي المشهد، حي ساروجة الجزء الحقيقي من ذاكرة السوريين، وحاضرهم الذي يشهدُ حرائق ودمارات متتابعة، ليس صدفة أبدا، الشرارة بدأت في حرق غوطة دمشق، وقبلها أحرقت المدن بالبراميل، وأسلحة المافيات، واليوم تمتد ألسنة الحرائق إلى أمكنة شكّلت مسرحا حقيقيا لمشاويرنا نحو الجمال.
حي ساروجة، أوّل حي بني خارج السور، قبل أكثر من 800 سنة، وقد بناه صارم الدين ساروجة، يشكّل هوية مشرقية، هنا حمام الورد الأثري، الحمام الذي تفوح منه رائحة الغار، والمسك، والحناءـ رائحة العطر والنظافة، وجامع الشامية الذي يعود للعهد الأيوبي، أي إلى أكثر من 900 سنة، ففي العهد المملوكي بنيت معظم معالم ومساجد الحي، جامع القرمشي، قصر اليوسف، تخيلوا أقل معلم يمتد إلى أكثر من ثمانية قرون، وها هو قصر اليوسف تطوله النار، هذا القصر الذي يمثل إرثا حضاريا وثقافة مدينة، ويعتبر أول قصر دخلت عليه الكهرباء عام 1907، والذي يحتوي على أكثر من 30 غرفة، يعتبر تحفة معمارية حقيقية، هو ما أراده أمير الحج، أن يكون على غرار قصر العظم، الذي يشكّل منصة حقيقية للفن والثقافة، ورائحة النارنج والياسمين والجوري، بني قبل 200 عام، ويعتبر من أجمل بيوت دمشق، على مساحة 2100 متر مربع، وقد قسم إلى قسم للحرملك، وآخر للسلملك، أخذ قسم منه متحفا للوثائق الأثرية، والذي طاله الحريق أيضا.
هذا الحي شكّل مجالًا للتنافس بين الأمراء المملوكيين الذين تسابقوا لبناء المنشآت فيه، المدارس والجوامع والحمامات، في حين يتنافس من هم اليوم على نشر ثقافة الخراب، والصورة شاهدة، لقد حوّلوا المدن إلى رماد ودخان، ومحو متتابع، هذه الحرائق، يقف وراءها مخطط التغيير الديموغرافي واحتلالات الكراهية.
ما تشهده دمشق هو هيمنة حاقدة على حضارة شامية، وتغيير ديموغرافي واستيطان، كلّ ما نراه مرسوم، والدليل تأخر فرق الإنقاذ، والإطفاء، هذا المشهد نراه في مدينة حلب أيضا، ونراه في منطقة المهاجرين بدمشق، حيث احتل الإيرانيون معظم الجادات، وصرنا نرى ونسمع صوت الندب، وعتمة العصور، ما نراه في مدينة كانت ملاذا لكل من يمر بها، هو صورة من صور التغيير الديموغرافي والانتقام، ارتدادات الحرائق قد تأكل الأخضر واليابس، وها هم يطمسون الكينونة التاريخية لأقدم المدن في التاريخ، هنا حيث تتوارث المهن بكل فنونها وقيمها، هنا عرفت جمال البيت الدمشقي الذي بني على فكرة الاستدامة، هذا البيت الذي عرف ثقافة العطر، والعلاج الطبيعي من شجرات مزروعة في جنينة البيت، وعرف ثقافة التدوير، وقيم الأديان، ولا أحكي بمثالية هو ما عرفته وتربيت عليه، في بيوت بسيطة، وها هم يفتتون العائلة ويمسخون القيم، نعم سيذكر التاريخ أنه في زمن هؤلاء الطائفيين، باتت البلاد في مهب الغبار، ارتدادات الخراب، وحرائق متتابعة، ففي إبريل عام 2016 قضى الحريق على أكثر من 80 محلا في سوق العصرونية، القريب من مقام السيدة رقية، وفي يوليو 2017، شهد باب الجابية حرائق في سوق الصوف، وبعدها في منطقة البزورية، في 2020، أحد أشهر الأسواق التجارية في العاصمة، واليوم في سوق ساروجة، وكل هذا يحصل في مناطق مجاورة للأماكن المقدسة العامة، ومن مصلحة إيران التملك ومحو الذاكرة الشامية.
لدينا كل الغنى، العمران، والحارات، والمهن، والأسواق، والمساجد، وصناع الأقمشة، لدينا قيما معتدلة ففي دمشق يجتمع التاريخ، وتعانق الأديان بعضها، لكن الهمج يحرقون هذا التعايش
محو الذاكرة، بل الحاضر والمستقبل لمدينة أتقنت وصدّرت معمارييها إلى روما، أخذت من حضارات أخرى، تفاعلت معها، مدت جسورا مع شواطئ المتوسط، وهنا أتذكر ما يقوله البعض لا سيما أعداء الحضارة الشامية، كفاكم تغنيا في الماضي، ماذا لديكم اليوم؟
لدينا كل الغنى، العمران، والحارات، والمهن، والأسواق، والمساجد، وصناع الأقمشة، لدينا قيما معتدلة ففي دمشق يجتمع التاريخ، وتعانق الأديان بعضها، لكن الهمج يحرقون هذا التعايش، ويزرعون الطائفية، وينشرون أعلام الحقد، الشام هي إسلام البيزنيس كما قال صادق جلال العظم، وأديان المحبة، اعتادت هذه المدينة أن تعلّم أبناءها عند اليهود والمسيحية، والإسلام، وأن يتعاونوا على تربية المهن والخصوصية، وها هي اليوم في المهب، ورغم هذا فإن جدل التاريخ وثقافات الخصب، تعلمنا أن الجحيم الذي أخذوا الوطن إليه لن يدوم، لأن العمران هو البقاء، يكفيهم أنهم دخلوا تاريخ الخراب.