ما معنى أن تتغير الاتجاهات كلها برصاصة واحدة، وأن تختفي الطرقات والدروب، والبشر الذين يسيرون وراء لقمة يومهم؟
ما الذي يجعل المأساة تتصدر المشهد، ودون أي إجابة؟ أهو "القاتل الذي أغضب الله"، كما قال جورج شتاينر؟ وبالتالي كيف يمكن للسوري تحمّل كل وجوه المأساة، وذاك الهولوكست الذي يزنّر أرواحنا؟ والذي نراه ونقرؤه في الصورة فنغمض عيوننا كي لا نعوي.
ولأن الوجود الحر مطلب إنساني، فقد أرعبتهم، الحرية بالمعنى الوجودي، بمعنى الكرامة والحقوق، وضوء الحياة.
فهل نقول إنها عبث الحرب والكراهيات، والطائفية، والقوميات المريضة، الجميع يصطادون الحياة، الحياة رغم فقرها، الحياة رغم بساطتها، ويرمونها في الجحيم.
أسوق هذا الكلام، لا لأننا نسينا، بل لأن الفيديو الذي نشرته صحيفة "الغارديان"، والذي يصور مجزرة جماعية في حي التضامن يظهر فيه عناصر من قوات الأمن وهم يقودون المجزرة، فهل جاء هذا المشهد، ليضيف على العمل الدرامي "تكسير عضم"، مشهدا من مشاهد العنف والفساد، ومسلسلات القتل والتفجير، وليشير أكثر إلى من يقفون وراء تدمير سوريا؟
تقول الغارديان: "هذه قصة جريمة حرب قام بها أحد أشهر الأفرع التابعة للنظام السوري، الفرع 227 (يعرف بفرع المنطقة) من جهاز المخابرات العسكرية".
مذبحة ارتكبت في الضاحية الجنوبية لدمشق في أبريل 2013، مدنيون يسيرون معصوبي العيون، ويدفعون نحو حفرة الإعدام، لا يهم القتلة سوى التلذذ بمتعة القتل، وآخرون يستمتعون أكثر بالتقاط الصور يمارسون هواياتهم يتلذذون..
يظل البطل التراجيدي عاريا وحيدا أمام قوى متعددة تأخذه إلى حتفه. فالمأساة هي الموت حسب هيجل، والموت عندنا ثمنه رصاصة، ومرتزقة، لا إنسانيون
من نيسان أبريل 2013، إلى نيسان 2022، معارك تطوى، شخصيات وطنية تموت، أو يأخذها المنفى، وهكذا بتنا نتابع مسلسل الهولوكوست السوري، ونرى "أنا" القاتل، و"أنا" الضحية، أمكنة تباد، المأساة صراع لا مفر منه بين الذات الإنسانية والعالم الذي حولنا، معركة غير متكافئة، المطالبة بالحرية بالكرامة، يقف مقابلها فعل إبادة، ولكن أسوأ أنواع الإبادة هي الطائفية والقومجية لأنها تُفتت الإنسان والوطن، يظل البطل التراجيدي عاريا وحيدا أمام قوى متعددة تأخذه إلى حتفه. فالمأساة هي الموت بحسب هيجل، والموت عندنا ثمنه رصاصة، ومرتزقة، لا إنسانيون، وهو ما جعل مارتن تشولوف، مراسل الغارديان في الشرق الأوسط يقول: "إن هذا الفيديو هو من أفظع ما رآه في الصراع السوري بأكمله، وإن هذه اللقطات تعطينا لمحة عن جزء لم يسبق وصفه من الحرب المستمرة منذ 10 سنوات".
وبالتأكيد فإن الحضور الإلكتروني أعاد للمرئي سحره، وربما أعاد لنا صورة القاتل الذي يسرح ويمرح، أو ينتهي برصاصة قاتل أكبر ليمحى الأثر.
لكن الصورة والصوت أيضا، وعيون الضحايا، وصرختهم التي لم تكتمل، ها هي تعود من جديد
وهنا أحكي عن القتل كفعل سحر، نموت دون أن نلتفت أو تكتمل صرختنا، القاتل وحده يرى ولا يرفّ جفن الكون على قتل السوري، والفلسطيني، لن أكتب رسالة إلى الله، ولا إلى الأمم المتحدة، ولا منظمات حقوق الإنسان، ولا لرؤساء الدول، ولا لمحكمة العدل الدولية، وإن كتبت سأرمي كلامي للريح، كي يسمع العالم صوت الضحية، حتى لو صم أذنيه، فإن الحجر يتفتت من ملح صبرنا.
ولأن الصورة تحيل إلى ذاتها، أي إنها مرجع ذاتها، وها نحن "نرى الواقع منعكسا على الشاشة"، لقد انسحب الواقع إلى حفرة، وصوت طلقات ومحرقة، لقد غادر الواقع وغادرنا نحن إلى عزلة اضطرارية، إلى غربة، إلى جهة أخرى، نحمي فيها أنفسنا رغم أننا نتنفس المحرقة، نحمل منديلا ملطخا بالدم والحرائق، ونداري أنفسنا نصمت، أو نكتب، أو نصرخ حتى يتشقق سقف السماء، يتراجع الواقع وتبقى الصورة، نتراجع إلى وحدتنا وغربتنا، اللغة البصرية، تُظهر لكنها لا تخفي من وراءها، تحولات تطول المكان والزمان، وتطولنا، عالم رقمي والرصاص يزخ على الناس، تتسع المقبرة، لا هوية سوى هوية القتل وأما صوت الضحية فقد جمع في صورة وفيديو وفعل قتل وفرز، لا هوية لهذا العالم الافتراضي لا شمال في هذا الفضاء ولا جنوب لا شرق ولا غرب، كل الجهات تشير إلى صورتين قاتل متمرس منزوع القلب والضمير وضحية.
فضاء فاقد للجذور والمحرقة تتسع، زنوبيا تتلفت أين تدمر، أين الجدران والأعمدة، والمعابد، لقد هدموا ليس الماضي فقط بل الحاضر والمستقبل، واليوم يتلفت ضحايا مخيم التضامن واليرموك وفلسطين بعد أن خرجوا من موتهم، من هذه المقبرة الجماعية، يصحون بعد 9 سنوات، فنراهم ولا يرتجف قلب العالم.
لابد من قراءة الصورة، وقراءة الفكرة، من أين أتى هؤلاء القتلة ومن أي فكرة ليقتلوا دون أن يرف لهم جفن، مرتزقة، هم أكثر، روبوت لا هم أكثر، منفذو المحرقة، والصورة أكثر بلاغة من كل الكلام والأفكار، هل الصورة تنويم للتفكير، هل هي القضاء المبرم على الفكرة، هل نكتفي بالصورة، هل هي ضد الفكرة، هل نرى ونزيح كل شيء؟
المحرقة تتسع، أن تكون سوريّاً، يعني أن تحمل سوءَةَ العالم، يعني أن تسكُن جدرانَ الصمت، ولا تطرق أي باب، فكل الأبواب اتفقت على نفينا، وهذا الكرسي اتفق مع الأبواب على إبادتنا، تدمر تُدمّر، والجواز السوري تعميم عالمي على أننا إرهابيون، والإرهابي الحقيقي يقهقه على كرسي منخور.
وهنا تماما، تأتي أهمية الفلسفة للكشف عن المفارقات، التغيير الذي تُحدثه الصورة، وهذا العالم الذي يمجد "أنا القاتل"، ويتركه يسرح ويمرح، هذا العالم الذي لا يريد أن يرى موتنا وتشردنا وتفوقنا أيضا وجنوننا وإبادة مدننا وسرقة آثارنا.
أقفزُ في الفراغ، أشمُ رائحة المحرقة، كلنا نحترق، أنت سوري وكفى، جدران ملطخة بدمنا، والقاتل إرهاب، والإرهاب يعني ثمة مجازر كثيرة لأناس كانوا يُرتِقُون يومَهم بثوب الصبر والانتماء لهذا المكان، الإرهاب هو هذه الصورة لمخيم بات حطاما، المشهد قيامي لأناس يحملون أطفالهم ويهجون، الصورة تحكي وكفى.
من نجا صار في المنفى، ومن لمْ، فهو في قبر جماعي، وآخرون مضوا إلى المدن، والأمراض تأكلهم، يبدو أن المشهد بات مريضا، الطاعون ينخر والمحرقة تتسع، ولأننا لا ننسى، تعود الصورة، الفيديوهات، وصورة القاتل الذي يتلذذ بالقتل.
في حي التضامن، في اليرموك، في مخيم فلسطين، وما أدراك عن هذه المنصة، التي تشبه كثيرا الحياة قسرا، اختلاط البشر، وتساويهم في العتمة وضوء الشمع وطنابر الوجع، في المخيم الذي لا يبعد كثيرا عن دمشق، مدينة وأسواق سوق الخضرة سوق لوبية الذي يربط مخيم فلسطين باليرموك، أسواق ودكاكين بنايات وحارات بسيطة، بيوت كتب على جدرانها سنعود، تحيا فلسطين، وكل كتابة إشارة لحلم، أو قائد، أو أيديولوجيا، لا تهم التفاصيل، ما يهم هو محبتهم للمكان، والكيميا بينهم وبين الناس الذين سكنوا هنا، عراقيون هاربون، نازحون من الجولان، هاربون من دمشق بسبب الغلاء، هنا مخيم الحنيّة، حتى المخرج حاتم علي سكن فيه، والمفكر
والفيلسوف أحمد برقاوي وأمه وإخوته الذين فتحوا عيادات ومكاتب محاماة، ونحن سكناه، والبعض تركه مرغما ومضى إلى رام الله أو غزة، ودائما الخيوط مقطعة، رغم وجود خيط إنساني وأصوات، موسيقا وغناء وتقاسيم على العود، وروائح للخبز، لكن ماذا لو تحولت حياة بكاملها إلى لون الذعر، حتى الصرخة لا تكتمل، ولا التلفت، ولا أي شيء، الكل أمام ومضة القتل وحفرة لقبر جماعي، ومجزرة.
نساء ورجال، شباب وأطفال، فيلم رعب طويل، ينفذ على مرأى ومسمع العالم، لكن الموتى صحوا اليوم، خرجوا من قبر بلا شاهدة
ها هم يعودون، يخرجون من القبر، البيوت محطمة، الشوارع ليست هي، والقتلة يتجولون في قارات أخرى.
كيف ينام القاتل، ألا يرى كوابيس، ألا يعرف الذعر، ألا يسمع الاستغاثة، ألا يلتفت بلحظة ما ليرى الدم العالق على ثيابه ويديه؟
من أي حقد أتى، وأي مخطط رُسِمَ ليقتلع الناس من وطن مؤقت، ثمة رجل يحمل كاميرا هاتفه ويصور، متعة الصيد، متعة القتل، يضحك ضحكة المنتصر، بلباس عسكري، وعيني مجرم، نساء ورجال، شباب وأطفال، فيلم رعب طويل، ينفذ على مرأى ومسمع العالم، لكن الموتى صحوا اليوم، خرجوا من قبر بلا شاهدة، رائحة كاوتشوك، دواليب السيارات، محرقة تفوح من التراب والهواء، والمطر.
القاتل، المريض، المفصوم، المغسول الدماغ، الحاقد، مخططات الإبادة، مخططات محو هوية حتى اللاجئ، براميل، وقيامة سجلتها الصورة، الصورة تنقل عنف العالم، تظهره، "يتمثل العنف فيما يتركه من علامة"، كما قال جان لوك نانسي، وهنا نقول هل ثمة علامة أكثر من هدم المدن والمخيم والأسواق التاريخية، والبيوت، والنفوس، ولأن الصورة وجه الإدانة، ننتظر وننتظر وننتظر.