قبل أن تلقى مصرعها بأسبوعين، كتبت دلال زين الدين على صفحتها في "فيس بوك" منشوراً لاقى رواجاً واسعاً، استعادت فيه ذكرى عاشوراء في قريتها بجنوبي لبنان، عندما ارتدى الأطفال، حتى الرضّع منهم، الملابس السوداء، ولفّوا على رؤوسهم العصبات، وطلب منها أصغر أبنائها أن يلبس كالآخرين لكنها رفضت.
ألبست الأم الشيعية اللبنانية طفلها، السنّي الحمصي، لباساً شامياً تقليدياً دون أن تشرح له السبب بأكثر من جملة: "أنت لست مثلهم"، فيما كانت تفكر في أنها لن ترسله إلى الحسينية حيث يحتفل القتلة بتحرير مدينته من أبنائها، وأنها لا تريد له أن يسألها عن الخامنئي ونصر الله ومن أسهموا في تهجيره. وختمت منشورها بالقول: "أكره أن يسألني ابني عن الشهادة، أنا التي هربت به من حي إلى حي، ومن مدينة إلى أخرى ومن دولة لدولة كي يبقى حياً.. كي يبقى سورياً".
من المؤسف أن فجر، الذي بلغ الثالثة عشرة، سيستشهد دون أن يسأل أمه التي باغتها الزلزال الذي ضرب مدينة أنطاكيا التركية، حيث سكنت العائلة منذ سنوات، فكانت دلال من أولى ضحاياه، قبل أن يلحق بها ولدان شابان كانا تحت الأنقاض، وحفيد رضيع، وأخيراً الابن الأصغر الذي قضى بعد إسعافه إلى المشفى بساعة.
ترجع عائلة زين الدين إلى إحدى قرى بنت جبيل. ونتيجة الفقر والرحيل المبكر للأب أودعت الأم أبناءها في ميتم ليتمكنوا من متابعة تعليمهم. في الضاحية الجنوبية لبيروت تزوجت دلال شاباً حمصياً كان يقيم هناك ثم عاد بها إلى مدينته قبيل الثورة السورية بسنوات قليلة، فشهدت اندلاعها في حمص، وسنتها الأولى التي بكّرت عليها المجازر هناك، يوم كان حسن نصر الله يقول: "ما في شي بحمص"!
وكانت هذه المرأة، التي لم تتخل عن مذهبها الشيعي، تشاهد المجازر وتعيش حصار الجوع والعطش وتستشعر الظلم فعلاً، لا عبر تشجيع الرادود على البكاء في مجالس العزاء، فتساءلت عن الحسين؛ أهو معنا أم معهم؟ لتصل إلى أن "حمص هي كربلاء هذا العصر".
في إحدى المقالات القليلة التي كتبتها بيّنت دلال أنها قرّرت في البداية الوقوف في صف الأسد، فخورة بالدفاع عنه وكأنها تدافع عن الجنوب وعن المفاهيم الخمينية التي تلقتها. لكن الحاجز الذي نصبته قوات النظام في أول الزقاق الذي كانت تقيم فيه تكفّل بتغيير قناعاتها، فقد كانت تشهد قنص أي ساكن يحاول المرور عبره. وهكذا، جثة بعد جثة، اقتنعت أن القنّاص والذين يقفون وراءه لا يمكن أن يتصفوا بالإنسانية.
خشيت الأم على ابنها، الذي كان يؤدي خدمته العسكرية الإلزامية، من عدوى الإجرام فأقنعته بالانشقاق عن جيش الأسد وانضم إلى الجيش الحر في ريف حمص، في حين وردها اتصال مفاجئ من ابن أخيها يخبرها أنه سيزورها خلال أيام، بمجرد أن تسمح له بذلك "المهمة الجهادية" التي أتى بها إلى سوريا، دفاعاً عن المقامات وحرباً على المندسين. دون كلام تخاطب العمة ابن أخيها: "عد وأخبر سيدك أن حمص ليست تل أبيب وأن أهلها ليسوا هم من قتلوا الحسين".
بعد زيادة التوتر في حمص وتعرّض منزلها للخطر غادرت الأسرة إلى جنوبي لبنان وأخفت ميولها السياسية حتى طلب حزب الله من الأبناء أن يصوتوا لبشار الأسد في الانتخابات الرئاسية 2014، بما أنهم سوريون، وهنا تولت الأم إعلان الموقف وتحمل تبعاته حتى الهجرة إلى تركيا التي لم تكن معيشتها فيها سهلة واضطرت إلى أعمال يدوية.
لكن دلال زين الدين استعادت، بالتوازي مع مراجعاتها العامة، ميولاً أدبية كانت قد ظهرت لديها أيام الدراسة. فشرعت في كتابة شهادة بعنوان "ألف يوم مع السنّة في سوريا"، لعل مسوداتها الآن بين ركام منزلها، ورواية صدرت في منتصف العام 2022 باسم "عمامة وجسد".
وترصد الرواية بداية ترسخ النفوذ الإيراني بين الشيعة اللبنانيين، مع ما حمله من قيم فارسية وتقاليد غير مألوفة تماماً لدى المجتمع الأهلي. ومنها، حسب المؤلفة، زواج المتعة الذي انتشر في الجنوب اللبناني كظاهرة صدّرتها إيران على طبق شرعي بواسطة حزب الله. تحتل هذه المسألة صلب الحكاية التي تنشأ بين ليلى، الصبية/الطفلة ابنة السادسة عشرة، وبين الشيخ علي، الرجل النافذ دينياً وسياسياً وعسكرياً في المنطقة. لم يخدع الشيخ المراهقة التي أغرمت به لكنه استغل فارق العمر والمكانة والثروة ليبني معها علاقة غير متوازنة تقوم على تمتعه بجسدها لوقت محدد يجددانه كل مرة، بمقابل غير معلن هو دعم أسرتها البائسة براتب شهري من أموال الخمس.
استمرت هذه العلاقة عاماً نضجت خلاله ليلى وتعلمت الكثير على خلفية معارك من بقايا الحرب الأهلية اللبنانية، وصراع الشقيقين حزب الله وحركة أمل داخل البيت الشيعي، والعمليات ضد إسرائيل. ووسط كل ذلك تفقد ليلى شقيقها المفضّل الشاب عباس، وتشعر بمهانة الحب الذي يقودها إلى الشيخ علي كل مرة، فتقرر الانفصال عنه نهائياً وتتزوج بعد أشهر قليلة بشكل تقليدي.
ربع قرن مر قبل أن تصادف ليلى عشيقها القديم على "فيس بوك"، وتعلم أنه ما زال يدفع الآخرين إلى الموت، لكن في سوريا هذه المرة، بعد أن أصبح أحد مهندسي المعارك ضد الثورة هناك، في حين أنها كانت تؤيد حراك الربيع العربي. يتبادل زوجا المتعة السابقان مراسلات عديدة، ويحاول الشيخ استعادة العلاقة، لكن ما أصابها من شروخ حال دون ذلك في نهاية الأمر.
في هذه الرواية الوحيدة التي أسعفها الحظ بنشرها كتبت (كنّتنا أم عمر)، وهو اللقب الذي أحبته في سنواتها الأخيرة، أن "الموت مخادع كبير، يستكثر علينا الرحيل عن هذه الحياة بطريقة ديمقراطية، طريقة نختارها نحن". وهو ما حدث مع زين الدين التي فاجأتها دمدمة الأرض ذات فجر، لتدفن إلى جانب السوريين الذين شاركتهم الحياة والموت.